جاسوسٌ في أمعاءِ كمبيوتر!

حبيب سروري

 

ف.د رجلُ دولة، كثيفُ الحاجبين، ذو لغةٍ انسيابية لذيذةٍ ماكرة. يغوص في مقلتيك عن الحديث معك. رجلٌ “بِدقّةِ مفتِّشِ ضرائب، ونفَس عدّاءِ مسافاتٍ طويلة”، كما يصفهُ زملاؤه. خريجُ أرقى كليّات الإدارة، وراءُه نصف قرنٍ من التجارب.

في كلِّ وزارةٍ هامّة، وفي رئاسة الدولة، لا يوجد مثله إلا إثنان أو ثلاثة. رجالُ ظل. هم في الحقيقة من يختفون وراء كل قرارٍ استراتيجيٍّ أو مباشرٍ هام، ويهندسون سيرورةَ دفّةِ الدولة بشكلٍ عام.

الوزراءُ والرؤساء واجهاتٌ مؤقتةٌ فقط، لِتعميد مشاريع قرارات هؤلاء، أو للحسم بين أكثر من اختيار يقترحونه.

يغادر الوزراء والرؤساء الحُكم، ويبقى هؤلاء ما بقت الدولة، وما دام ينبض فيهم عرق حياة.

 

ف.د مستشارٌ خاصٌ لِرئيس الدولة، ومديرٌ لِدائرة الاستشرافات الاستراتيجية وإدارة الأزمات. يميل كثيراً لوضع الكمبيوتر في قلب نشاطات دائرته، وفي كلِّ برامج طاقمِها المتبحِّر في أتمتة التجسّس، وفي تقصّي “البيانات العملاقة” لاكتشاف “المؤشرات الخافتة”.

 

يوجِّهُ ف.د عملَ دائرته بألمعيّةٍ تسمح له كثيراً باستشرافِ الأزمات المالية والسياسية، والحروب وما تليها من هجرات وأمراض، وبتقديرِ ما سيحصلُ أوّلاً بأوّل، وبالأرقام القريبة من الحقيقة غالباً.

مثلُ لاعب شطرنج يعرف مقدّماً نقلات خصمه، أو لاعب بوكر يرى في المرآة أوراق خصمه، يبرمجُ ف.د قرار دخول بلدهِ في حربٍ أو لا، في ضوء كلِّ المعطيات التي تُقدِّمها له برمجياته الآلية.

لذلك يُسمَّى ف.د: “السيد حرب”. إذْ لم تتخذ بلدُهُ حرباً منذ أربعين عاماً لم يكن وراء قرارها، ولم تبتعد عن حربٍ لم يكن معارضها.

 

يسردُ لِمهندسي دائرته غالباً، من خلال تجاربه وحدسه، سيناريو تداخلات الأحداث التي يمكنها أن تقود إلى “المؤشر الخافت”، الخطير جدّاً، الذي يمكنه أن يؤدي لهذا الحدث الهام أو ذاك.

يقومون بعدها بتصميم برمجياتٍ لأتمتة البحث الآلي في “البيانات العملاقة” عن توفّر ظروف الأحداث التي رسَم تداخلاتها في السيناريو، متابعين تطوّر سيروراتها التي يمكنها أن تقود إلى ولادة المؤشر الخافت، كما رسمه في السيناريو.

 

في مشروعِ الحرب الأخيرة لِبلدهِ، دارت الأمور كالعادة: مجلسٌ مصغّرٌ ترّأسَهُ رئيس الدولة ضمّ رئيس الوزراء، وزير الخارجية، رئيس الاستخبارات، كبير قادة الجيش، وزير الداخلية…

كلُّ واحدٍ من هؤلاء جاء بدراسةٍ، أعدَّها له رجالُ دولة على غرار ف.د يعملون في مرفقه، حول جدوى قيام بلدهم بتلك الحرب، وخطّةِ شنِّها في حال الموافقة على ذلك.

 

بعد الجدل، لم يتبق على مائدة البحث غير مشروعَين فقط، أحدهم لا يوصي بالحرب لكنه يمارسها بطريقة سياسية محدّدة تفي ربما بالغرض، والآخر يدعو للتدخّل العسكري السريع وفق خطّة محدّدة.

لزم أن يحسم رئيس الدولة بين المشروعين خلال 24 ساعة!

 

كعادته، يلجأ الرئيس إلى مستشاريه الثلاثة بشكلٍ انفرادي، يلتقي بكلٍّ منهم قبل الاجتماع المصغّر لمدّة ساعة، لمساعدته في توجيهه. وبعده مباشرة لمدة دقائق فقط، يطلب من كلِّ واحدٍ خلالها: وضع نسبة مئوِيّة لِترجيحه لِكلِّ خيارٍ خرج به الاجتماع المصغّر.

 

سيقرِّرُ الرئيس بشكلٍ نهائي، في ضوء نسبة ترجيح ف.د ومستشارَين آخرَين، كليهما مع الحرب بنسبة 49٪ فقط.

يكفي أن تكون نسبة ف.د 53٪ لتندلع الحربُ التي كان ف.د موافقاً عليها، قبل الاجتماعِ المصغّر!

 

حدث شيءٌ عجيب جدّاً قبل اتخاذ ف.د قرارَهُ الأخير!

يلزم القول أوّلاً أن ف.د اشتهر بِسريّتهِ المثلى: إنسانٌ يستحيل اختراقه. له كمبيوتران في مكتبه. الأول لكلِّ ملفاته المِهَنيّة فقط. لا يربط هذا الكمبيوتر بشبكة الإنترنت، ولا بأية شبكة ولو داخلية. لا يثق ف.د بأحد: يحمل ملفاته ويسلِّمها بيده للرئيس.

وله كمبيوترٌ شخصيٌّ مرتبطٌ بالإنترنت، يستخدمه لقراءة الصحف ومتابعة الأخبار والشبكات الاجتماعية، لكن لا يضع فيه أي ملفٍ مهنيٍّ إطلاقاً.

 

لا يلجأ لأي سيرفر “خادم” إيميلات إمريكي كجيميل أو هوتميل أو ياهو، لأنه يعرف أن كل ما يمرّ عليها مفتوحٌ لِفِلترات برامج تقصٍّ استخبارية، لمكتب الأمن القومي الأمريكي، بموجب قانونٍ شرّعَ ذلك في معمعان هلعِ أحداث 11 سبتمبر: تمرّ أمواج الإيميلات البشريّة على هذه الفلترات التي تبحث في لُجِّها عن بعض الكلمات والأسماء الهامّة (داعش، بن لادن…)، تدرسُ تردُّدَها في النص، تُطَبِّق عليه قواعد معرفية استنباطية وإحصائية ذكيّة للاستنتاج الآلي للمعلومات المفيدة استخباريّاً فيها…

 

ليس ذلك فقط، لكن ف.د لا يبعث لأيٍّ كان أي إيميل يتضمّن ملفات أو معلومات مهنيّة، أو حتّى أخباراً ما. لا يستخدم كمبيوترهُ الشخصيُّ للبحث على غوغل عن أيّة معلومةٍ هامّة قد تفضح ما يدور في رأسه، ولا يذهب لزيارة مواقع إنترنيتية قد تُعرِّي ما يبحث عنه، لأنه يعرف أن برامج كمبيوترية أمريكية استخبارية شهيرة تراقب كل شيء. لا يستخدم الفيسبوك في دار الرئاسة خوفاً من تسرِّب فيروس فيسبوكي يتلصّص على شبكتها، كما حدث أحياناً.

 

علاوةً على ذلك، يستخدم برمجية VPN التي تحمي سريّةَ ما يعمله وتخفي رقم كمبيوتره على الإنترنت. لا يكتفي بذلك، لكنه يضع لإيميله اسماً تنكريّاً أيضاً.

 

ف.د روبوتٌ حقيقيٌّ صارمٌ بالفعل. لكنه إنسانٌ أيضاً. له علاقةٌ غرامية لا يعرفها أحد، بإنسانةٍ لا يستطيع التنفّسَ دونها. يتراسلان على الدوام، باسمين تنكُّرِيين.

قبل بعث إيميله لها، يعيد قراءة مسودّاته ألف مرّة لِينظِّفها من أية معلومات شخصيّة قد تكشف النقاب عن هويّة المرسِل أو المستقبِل، ومن أي بوحٍ مهنيٍّ يسرِّبُ فيه أسراراً بشكل غير مباشر. ثمّ يمحو الإيميل بعد ذلك، كما تمحوه معشوقته من كمبيوترها بعد القراءة.

 

مرّ كل شيءٍ كما يلزم، حتّى عشية اتخاذ القرار بالحرب. استلم ف.د ليلتها إيميلاً من مجهول يكشف له بعض مسودّات إيميلاته القديمة الأكثر حميمية وفضحاً للمستور، ويطلب منه أن يحول دون الحرب إذا لا يريد كشف أسرارهِ للعالَم!…

جنّ جنونه!

كان قرارهُ في صباح اليوم التالي (الذي لم ينم طوال ليلته من فرط الصدمة) مفاجئاً للرئيس: قدَّم استقالتهُ للتقاعد في سنٍّ يناهز ال 75، والابتعاد عن السياسة.

= والنسبة؟؛ سألهُ الرئيس.

= 50٪!

لم تتفجّر الحرب!

 

قضّى ف.د أشهراً بعد تقاعده يحاول تفسير هفوة حياته، هو الذي لم يفتح يوماً رابطاً إنترنيتياً مثيراً للشك، ولم يشحن برمجيةً مشبوهة، ولم يفتح ملفّاً فيروسيّاً واحداً…

 

ثمّ تذكّر أنه كان ذات يوم في بلدةٍ تمنع استخدام الفيسبوك وغوغل. شحن فيها من الإنترنت برنامج VPN مجانياً، سمح له بالفعل بتجاوز المنع، لكنه ترك في أمعاء كمبيوتره، كما يبدو، جاسوساً برمجيّاً يُجمِّع مسودات إيميلاته، ويرسلها لِجهةٍ غامضة!

رغم مسحهِ لذلك البرنامج المجاني من كمبيوترهِ بعد عودته لبلده، ورغم شرائهِ لنسخةٍ أخرى مضمونة، ظلّ الجاسوس القديم، كما يبدو، يتغذّى من مسودات إيميلاته، بانتظار اللحظة الحاسمة!