بيتٌ يتجوّلُ كسفينةِ نوح

حبيب سروري

 

في عصرنا هذا، الذي تتسكّع فيه السفن الفضائية للإنسان في كواكب قصيّة، لم تعد الأحلام غالباً عبثاً وترف، بل فاتحةً لِمشاريعَ قابلةٍ للتحقيق ذات يوم.

لعلّ ذلك هو مصير أحلام الإنسان التي راودته منذ الأزل رغبةُ العيش بشكلٍ مختلفٍ عن حياته التقليدية: في جزرٍ نائية غرائبية، كجزيرة واق الواق المذكورة في “ألف ليلة وليلة” والتي قال ابن بطوطة أنه زارها؛ أو جزيرة “يوطوبيا” (من الإغريقية: موقع لا مكان له) التي تخيّلها توماس مور في كتابٍ شهيرٍ له، بهذا العنوان، صُدِر في ١٥١٦…

في الأولى ثمّة “شجرة النساء” التي تزهر نساءً وليس ثمراً، وفي الثانية يتأنسن شعبٌ همجيٌّ ليصير من أكثر شعوب العالم حضارةً ورقيّاً.

 

إذ يبدو اليوم أن المشاريع المعمارية المستقبلية الباهرة للجزر العائمة (والتي كرّست لها صحيفة اللوموند الفرنسية عددا خاصاً في ملحق “ثقافة وأفكار” في ٢ مايو ٢٠١٥) هي أفضل تجسيدٍ لتحقيق الحلم الطوباوي للإنسان بالحياة في عالمٍ جديد، مائيٍّ ساحرٍ مدهش.

 

جاءت فكرة تشييد الجزر العائمة، أو ما يسمى بالبناء المعماري الأزرق، كحلٍّ للتراجيديات البيئية التي تنتظر إنسان المستقبل، جرّاء التغير المناخي الحاصل في كوكبنا، وما يقود إليه من فيضانات وكوارث، لاسيما وأن المدن الكبرى (من شنغهاي وهوشي منه، إلى سان فرانسيسكو وبونيس إيرس) التي تمَّ تشييدها تاريخيا في دلتات مائية، أو قرب مصبّ أنهار، لم تعد قابلةً لمزيدٍ من التمدّد.

إذ أن تمدين البيئات المتاخمة للماء يؤدّي بالضرورة، كما أشار مصمِّمُ أوّلِ عمارةٍ عائمةٍ في ميناء روتردام في هولندا: بارت رويفين، إلى المسِّ والخلل في منظومتها الإركيولوجية الأزلية، وحاجاتها الطبيعية لِتراكم الطمى، للسهول الخصبة، لمستنقعات المانجروف أحياناً، لِكمياتٍ كثيرةٍ من الحيوانات، ولِحركةٍ طبيعية للمياه…

السبب الجوهري الآخر: بلغ حجم ومساحات مدن العالم الكبرى حدّاً يصعب اليوم تمديدهُ الجغرافي غالباً. ناهيك عن أن عدد سكّان البشرية سيصل إلى حوالي ١٠ مليار نسمة في ٢٠٥٠، ولم يعد أمام الإنسان من متّسعٍ لاحتواء هذا العدد الهائل غير الصحراء (تنقصها المياه)، أو الفضاء (شديد التكلفة)، أو البحار والمحيطات (حوالي ٧١ في المائة من حجم كوكبنا).

ثمّ أن مشاريع الجزر العائمة الكبرى تنطوي على جوانب معمارية بيئية لتطوير الزراعة المائية التي يكفي أن يُستثمرَ لها واحد في المائة من حجم البحار والمحيطات، كي يمكن إشباع إنسان المستقبل.

 

بدأت فكرة الجزر العائمة، أو “الثورة المعمارية الزرقاء” كما تسمّى، في هولندا حيث انطلق شعار “الأخضر جيد، لكن الأزرق أفضل!”، بغية أن تتناغم حيواتنا مع الماء الذي سترتفع معدلات فيضاناته بشكلٍ هائل في الأعوام القادمة، بسبب التغير المناخي لكوكبنا.

إذ يلزم حينها لتلافي الكوارث (لاسيّما وأن معظم سكان الأرض يعيشون قرب الماء) إما بناء الحواجز العملاقة المكلفة، أو التفكير بالبناء المعماري البرمائي الذي تسعى له الثورة المعمارية الزرقاء، والذي يسمح ببناء أحياء سكنية عائمة، متنقّلة، يمكن ضمُّها وتحريكها لتشكِّلَ كتلةً متوحِّدَةً هائلة تستطيع التفاوض مع حركة المياه، وتجنّبَ أو صدَّ فيضاناته.

 

في هولندا، بلد الأراضي المستصلحة من البحر، تعلّمَ الناس منذ زمن فن الحياة المتناغمة مع الماء. “لا يلزم محاربة البحر، بل التكيف معه”، يقولون. ثمّة حالياً منازل عائمة في حي إيجبورج في أمستردام، على سبيل المثال.

وثمة شركات عدّة فيها، وفي مدنٍ أوربية أخرى، تخطّط وتبدأ مشاريع الجُزر والأحياء العائمة، مثل “المدينة العائمة” (مساحتها ١٠ كيلومتر مربع) التي خططتها الشركة البريطانية ATDesign للصين.

 

لعلّ مشاريع شركة eltaSynD الهولندية التي شيّدت أوّل بنايةٍ عائمة في ميناء روتردام هي الأكثر إذهالاً: أرخبيل من جزر عائمة، كل جزيرة تقوم على عربةٍ أسمنتية دائرية قطرها حوالي نصف كيلومتر، تفصلها عن البقية مساحات بيئية تسمح لعبور الضوء إلى قاع البحار، ويمكن وصلها بالأرخبيل، عند الحاجة، بأنابيب ديناميكية، وربط وضمّ الجميع في كيان تكتليٍّ واحد.

ثمّة كذلك مشروع Lilypad الشبيه: أرخبيل من جزر عائمة، ذات شكلٍ غرائبيٍّ مدهشٍ مثير، تتسع كل جزيرةٍ منها لثلاثين ألف نسمة.

 

يلزم الإشارة إلى أنه بعكس الجزر الاصطناعية (كما هو الحالي في مدينة دبي) التي تضر بيئياً قاعَ البحر، تأتي فكرة الجزر العائمة كمشروعٍ أكثر ديناميكية واحتراماً للبيئة، هدفه حل كثيرٍ من معضلات حياة الإنسان في العقود القادمة، بطريقةٍ عبقريّةٍ جديدةٍ مدهشة.

 

شدّتني هذه المشاريع الجديدة للجزر العائمة، وبُعدُها البرمائي الذي ينسجم مع طبيعتي التعددية. وجدتُ أحلامي الطوباوية المعمارية تقترب من التحقّق فيها!

 

بدأت أحلامي المعمارية، في الحقيقة، قبل عقدين أو ثلاثة بمشروع هذا المنزل الغرائبي:

منزلٌ واسعٌ مشرئب، بأوجه أربعة، يعلو أكمةً أو قمّةً ما على طريقة القصور اليمنية التقليدية.

وجههُ الغربيُ زجاجيٌّ خالص يُتاخم البحر. أمامي كل يوم: غروبُ الشمس في الأفق المواجه، لا يفصلني عنه إلا زجاجٌ شفّافٌ لا غير. مِلكي: أسراب طيور النورس، الأمواج، السماء المتوهجة… يكفي كي أعوم، أنا الذي لا أستطيع أن أحيا دون العوم الدائم، أن أنطّ نحو الأعماق من شرفة منزلي مباشرة!

 

وجهه الشرقي من المعدن الفضيّ اللامع، يقابل المدينة وجهاً لوجه. يترامى أسفل شرفته الشرقية أرخبيل مقاهٍ ومطاعم مفتوحةٍ ليل نهار. سينمات ومسارح. أحياء مدينةٍ نابضةٍ سعيدة. بشرٌ متوقٍّدٌ حرّ، يسرح ويمرح في كل مكان. في الأفق البعيد عماراتٌ عاليةٌ متوهّجة…

 

وجهه الشمالي (من الحجارة المنحوتة بيد نحّاتٍ ماهر) يقابل جبلاً شامخاً، بهيئةِ عملاقٍ ميثولوجي، ذا تماثُلٍ هندسيٍّ مثير. رأسهُ (الذي أسميته: “القُلّة”، على طريقة أسماء قمم الجبال اليمنية) يستحوذ ناظري كل يوم.

تتفجّر على جانبيه ينابيع ساحرة، تتساقط من صدره شلّلاتٌ باهرة. بطن وأرجل الجبل مدرّجاتٌ زراعية على طريقة المدرجات اليمنية، تتخلّلُها سهولٌ وممرّاتٌ تعبرها ذهاباً وإياباً قبائل حيواناتِ محميات سرينجيتي في كينيا وتنزانيا، وتحلِّقُ فيها كل طيور رأس الرجاء الصالح، بكلٍّ تنوّعاتها المدهشة.

 

ووجههُ الجنوبي (المبني من الطوب الأحمر) يقابلُ الصحراء. رمالٌ بيضاء متماوجة تذكّرُني دوماً برُبعنا الخالي الساحر، بالمهد، بالبادية. تعبرها الجِمال في تماوجٍ يشبه إيقاع أوزان الخليل، لا أملُّ الإصغاء له…

 

أردت هكذا، في هذه المرحلة الأولى من حلمي المعماري الطوبائي، أن أدمج في بيت أحلامي عوالمَ متنوعة، وأن أمدّ فيه جسوراً تربط البادية بالمدينة، الجبل بالبحر، الطوب بالزجاج، الماضي بالحاضر، البر بالماء، اليمن بفرنسا…

أردته كذلك ليستحوذني دوماً ويمنعني من مغادرته، أنا الذي أشعر بالتخثّر إن بقيتُ في المكان نفسِه أسبوعاً فقط. لا سيّما أنني صمَّمتُ مكتبة بيتي هذا بطريقةٍ ستجعلني أتلظّى شوقاً له ولها، إن عشتُ يوماً بعيداً عنهما.

 

صمّمتُ “ماكيت” مكتبتي لتكون على جدران طويلة لولبية، تضيق شيئاً فشيئاً كلما اقتربنا من القمّة، حيث تمكث الكتب القديمة التي استمدَّ منها الإنسانُ ينابيعه الفكرية والأدبية والوجدانية الأولى: الإلياذة والأوديسة، ألف ليلة وليلة، ملحمة جلجامش، فن الحرب، مهابهاراتا، الكتب “السماوية”…

 

أمّا الوصول إلى رفوف هذه المكتبة الباسقة (التي أحتاجُ في الحقيقة إلى خمسين حياة لأقرأ كلَّ كتبها) فقد صمّمتهُ عبر سلالم نحيفة، تشبه شجرة السلالات، تنتشر في كل أرجاء جدران المكتبة، كما تنتشر الشرايين والأوعية الدموية في جسد الإنسان.

الوصول لكتابٍ عبر سلالم المكتبة، حسب موضوعه، ينسجم مع طريقة البحث عنه في شجرة مواضيع المعارف الإنسانية. يؤدي ذلك إلى بقعةٍ في رفوف المكتبة ترتبط بموقعها في شجرة المعارف، يُعثَرُ على الكتاب فيها عبر التسلسل الأبجدي. لم أحب أن يكون في منزلي روبوتٌ حديثٌ يذهب كعبدٍ ليحضر لي الكتاب الذي أبحث عنه، لكن أردت أن أبحث عنه أنا نفسي، كمن يتسلّق لِقطف ثمرةٍ من شجرة…

 

كنتُ سعيداً بهذا الحلم قبل أن أكتشف أنه مشحونٌ بتناقضات تجعله مستحيل التحقيق.

إذ كيف لي أن أجد موقعاً في هذا العالم تتعانق فيه الصحراء بالجبل، والبحر بالمدينة، وتلتقي جميعها في نقطة جغرافية معينة، تشرئب منها ربوةٌ أو جبلٌ صغير يعلوه منزل أحلامي؟…

ثم إن وجدتُ يوماً تلك النقطة الجغرافية المستحيلة، فكيف لمنزلي أن يلغي حاجتي الجذرية للسفر والحركة والتنقّل، أنا الذي أشعر فعلاً بالاختناق إذا مرّ أسبوع دون أن أغادر سكني، وأعبر مئات الكيلومترات بقطارٍ أو طائرة، كي أرى الطبيعة تنساب أمام ناظري كفيلم سينمائي ولو بضعة ساعات فقط، قبل أن أرى مدينةً أو قريةً أو عالماً آخر.

وبالمقابل، كيف سأستطيع مغادرةَ منزلي هذا وتحمّلَ فراق مكتبته، والسفر بعيداً عنهما ولو يوماً واحداً؟

 

ذابت هكذا كلُّ الإشكاليات بعد أن قرأتُ عن مشاريع الجزر العائمة، وعوالمها البرمائية الساحرة: لا حلّ لي إذن إلا في تنقّل منزل أحلامي هذا، كسفينة نوح، كي يطوف بمعيّتي بحار ومحيطات العالم، يستقرّ حيثما أريد، في شواطئ وموانئ كل الدنيا!

المجد للمنازل العائمة، المجد للثورة الزرقاء!