برقيةٌ عاجلة من تاج محل!

حبيب سروري

 

لن أُدهِش أحداً إذا قلتُ إن قصر “تاج محل” أجملُ وأبدع عجائب الدنيا السبع، وكلِّ ما بناه الإنسان منذ الأزل: يعرف الجميع ذلك.

فهذا الضريح الذي شيّدهُ الملك غياث الدين شاه جاهان (1592ـ1666) لزوجتهِ ممتاز محل، في مدينة أجرا الهندية، على مصطبّةٍ رخامية فسيحة في الضفة الشرقية لنهر يمنا: ملحمةُ حبٍّ غنائية عبقريةٍ خالدة، لا تظاهيها في الكون ملحمة.

 

دام بناؤه حوالي 20 عاماً بمجهودِ 20 ألف إنسان. جاءت مواد بنائه وحجارته الكريمة، يحملها ألف فيلٍ من كل أنحاء قارة آسيا، بما فيها شُعبُ مرجان البحر الأحمر، والعقيق اليماني الأحمر الذي يُطرِّز رخام راجستان الأبيض الناصع.

 

لن أدهِش أحداً إذا قلتُ إني عندما عبرتُ لأول مرّة الباب المهيب الأحمر في مدخل السور، لأواجهَ، على نحوٍ مباغت، حديقةً شاسعة، في وسطها دربٌ طويلٌ ينتهي ببنيانٍ أسطوريٍّ من الرخام اللدنيّ المتوهّج، شهقتُ بلا وعي، وارتطمتْ محفظةُ يدي بالأرض (لا أنسى صوت ارتطامها حتّى الآن).

كنت في الحقيقة أمام إعجاز: بنيانٌ عملاق، دقيقُ الجَمال لا نهائي الروعة، يتغيّر لونه مع تغيّر سقوط أشعة الشمس عليه: ورديٌّ في الفجر، أبيض في الظهيرة، بنفسجيٌّ في الغروب، ونيليٌّ مزرورق في ضوء القمر.

 

أشعر دوماً حتّى الآن بالرعشة الحقيقية كلما عبرتُ ذلك الدرب الطويل، ووقفتُ أمام باب ضريح ممتاز محل، بين عقود الآيات القرآنية والنقوش الإسلامية التي تحيطه، مثل كل باب، يميناً ويساراً وفي علياه. أقابل واجهة القصر بمآذنه الأربع المتناظرة في زوايا مصطبته، كما يقابل مؤمنٌ إلهَه.

لا تخفُّ رعشتي إلا عندما أستلقي كلية بضعة ساعات على مرمر الصرح الرخامي المقابل للباب الرئيس، وأحدِّق في كل الواجهة من أسفلها إلى قبابها المتناظرةِ في تماثلٍ هندسيٍّ كليّ، وهي تثقب السماء بِنُبلٍ جليل.

أدخلُ بعدها في حوارٍ هادئٍ طويل مع هذا المرمر الرخاميِّ المرصَّع بالنقوش الحمراء والأحجار الكريمة. أميل في الحقيقة إلى الهمس مع مرمر وطوبات وحجارة المساجد والكاتدرائيات والصروح التاريخية. تبوح لي دوماً بأسرارها بعد مناجاة طويلة حميمة.

 

بعد ساعات، أتجرأ أخيراً الدخول إلى الضريح باتّجاه قلبه، حيث تنام الفاتنة الألمعية الشهيرة: ممتاز محل. هي المركز. وبجانبها في دورٍ ثانويٍّ على الهامش: ضريح شاه جاهان نفسه. من قال إن “المرأة أقلّ قيمةً من الرجل، بشكلٍ مطلق، في الثقافة الإسلامية”؟…

كل شيءٍ أراه أمامي، من تجويفٍ وتقعُّر، ومن فراغٍ وامتلاء، ومن إيقاعٍ وتماثلٍ هندسي، يؤكد لي أني أقرأ فعلاً ملحمةً شعريّةً رخامية، بديعة الأوزان لذيذة القوافي، مملؤةً بالاستدارات البلاغية، بالتناغم الهندسي، بالصمت الناطق، وبالكلمات المحفورة بالمشاعر النبيلة والأحجار الكريمة.

قصيدةُ غرام مركزُها امرأة، الزوجةُ الثالثة والأخيرة لِشاه جاهان. الوحيدة التي عشقها بجنون (يتزوّج الملوك عادةً لنسج علاقات جيوسياسية، لا لِعشقٍ أو لِحب)، قبل أن تموت بعد حملِها بطفلها الرابع عشر، كما يقال.

أرنبةٌ حقيقية هذه الشهرزاد الألمعية التي طلبتْ من زوجِها، كما يقال، ألا يتزوّج بعدها امرأة، وأن يبني لها أفضل ضريحٍ لم ولن ترى مثلَه عينُ إنسان!

لا أنسى بالطبع أن أرثي زوجتيه السابقتين اللتين ماتتا نكِرتين لم يسمع عنهما أحد.

 

استحضرُ النهاية التراجيدية الرومانسية لكل هذه الملحمة الخالدة: استولى الابن الأصغر لِشاه جاهان: السلطان محي الدين أورانجزب على الحكم، قتلَ إخوته، لا سيّما الأكبر المفضَّل لشاه جاهان: السلطان محمد دارا شكُوه، بعد اتهامه بالإلحاد. وسجن أباه في أكمةٍ تواجهُ ضريح تاج محل، بحيث لا يرى من نافذة سجنه، وحتّى نهاية عمره، إلا ضريح زوجته!…

 

أعود من مركز الضريح في قلب القصر بعد ذلك، مثقلاً بالجمال والشجون والآهات، لأرتمي من جديد على المرمر نفسه، في الموضع نفسه بين الباب الرئيس للقصر المواجه لي، ونهر يمنا خلف ظهري.

 

أدخل حينها في حالةٍ صوفيّة خالصة. هلوساتٌ عميقة. تأملاتٌ تطمّني طمّا.

 

يصلني من قبر شاه جاهان، عبر الرخام الأرضيّ، صوتٌ رخيمٌ أسمعه لأوّل مرّة، يهزّني هزّا:

= أثمّة يا ولدي ما يفوق جمال هذا التفاعل بين الفن المغولي الهندي، والعربي الفارسي؟ أثمّة أكثر نبلاً من تفاعل الفنون والحضارات؟…

= صدقتَ شاه جاهان؛ أردُّ بعد أن تتبدّد آثار الصعقة وأعرف مصدر الصوت.

لا تدمع عينيّ أمام صروح الإنسان وإبداعاته الفنيّة، مثلما تدمع عندما أواجه قصر ضريح زوجتك وضريحك، وعندما أشاهد منمنمات الفنون المغولية على الحرير، في المتحف الوطني في نيودلهي. لا أملّ البقاء ساعات وساعات أمامها أيضاً.

= كان في استوديهات قصر جدي، الملك جلال الدين أكبر، أكثرَ من مائة فنانٍ تشكيليٍّ مغوليٍّ وفارسيٍّ وعربي. من تفاعلاتهما ولدت مدرسةٌ فنيّةٌ جديدة أنجبت روح تلك المنمنمات وفلسفة تصميم تاج محل.

أبي أيضاً، نورالدين جهانكير، كان مهووساً بالفن والأدب مثل جدّي، وكنتُ أنا نفسي فناناً: مصمم جواهر، وأحد أهمِّ مصمِّمي تاج محل: أردتهُ أن يكون بشكل جوهرة، فكان!

أما ابني الأكبر وحبيب قلبي، دارا، فكان سيّد الفنانين قاطبة، بجانب رفيقه الحميم الفنان التشكيلي الشهير جوفردان الذي رسمني مع دارا في لوحة خالدةٍ شهيرة.

لدارا معملُه الفنيّ الخاص الذي شيّده في عام 1528 سلفُنا ظهير الدين بابور، حفيد تيمور لنك وجنكيز خان. وله 68 لوحة موجودة حالياً في “المكتبة البريطانية” بلندن!

= فعلاً شاه جاهان! أعرف ذلك. فنونكم من أجمل ما أبدعه الإنسان منذ الأزل وحتّى اليوم. استلهمَ منها كبار المبدعين. امتلك الفنان الألماني رامبران عشرات من تلك المنمنمات. رسم على طرازها عشرات من “منمنماته المغولية”. رسمك، هو أيضاً، في إحداها مع ابنك الغالي دارا.

ثمّ ما زال فنّكم بين قمم فنون الإنسانية: تم بيع ألبوم منمنمات في 7 أكتوبر 2015، بمبلغ 4.6 مليون جنيه إسترليني!

 

= لا تذكّرني يا ولدي بحبيب قلبي دارا. كم كنتُ أريد أن يكون خليفتي، هو المتضلِّع بالثقافة العربية والفارسية والهندية. كان مترجماً أيضاً، ومؤلفاً لكتب عديدة أحدها: “مجمع البحرين”. كان حلمه الكبير فيه توحيد هذه الثقافات وضمّ الدين الإسلامي والهندوسية في فكرٍ يبلورهما معاً، ويجعلهما يتعانقان في كينونةٍ واحدة.

لكن ابني الأصغر، أورانجزب، قضى على الحلم، كفّرَ أخاه وقتله بعد إهانتهِ وتعذيبه، استولى على الحكم، سجنني، وعادى الفنَّ والثقافة: حاكمٌ طاغيةٌ مجرمٌ كمعظم حكّامكم العرب اليوم. “أصوليٌّ طاليبانيٌّ داعشي” كما تقولون اليوم، سبق عصره.

 

= نعم، ما أشبه الليلة بالبارحة، شاه جاهان!

= لذلك رجوتك يا بُني: إحملْ لشعوبكم العربية برقيةً عاجلة: قل لهم: لن تنجونَ إلا إذا دفنتم عصور الطغاة والظلاميين (كإبني أورانجزب) التي تتوالى في تاريخكم حتّى اليوم، واستلهمتم بدل ذلك من أفكارِ أمثالِ ابني الحبيب دارا الذي أراد فتح الجسور بين الحضارات، وجعل الثقافة والفن فناراً يضيء حياة الأمّة!