المسرح وكرة القدم، وكآبات العالَم

حبيب سروري

 

لمواجهة كل كآبات العالم، ثمة ترياق لدنيٌّ لذيذ: المسرح، وبلسم تخديريٌّ ممتع: كرة القدم. بين الإثنين تباين وتنافر يستحقان التأمل.

كرة القدم سجال جماعي مثير، تخفق له قلوب العالم أجمع في الوقت نفسه، على إيقاع الجري “العظيم” خلف كرة! هي أيضا لحظات هروب حميد من قضايا الإنسان وآلامه، والمنغصات اليومية التي تؤرقه.

وهي أخيرا مربط فرس مليارات “عالَم الاستعراضات”، ومنبع أفراح ملايين الدائخين في الشوارع الشعبية المسحوقة، وصراعاتهم البلطجية الدامية أحيانا، بعيدا عن المفهوم الذي اخترعه شكسبير في إحدى مسرحياته: fair play، الروح الرياضية.

 

أما المسرح فهو، كما قال بيتر بروك في مقابلة أجريتُها معه لصحيفة “الحياة”:

“صلاةُ جماعة (حوالي 700 شخص في أفضل الأحوال، في مكانٍ مغلق غالباً)، يركّزون ويتأمّلون معاً، يدخلون في «كومينيون»، عشاء إلهي. جزيرةٌ طوباوية صغيرة حيّة، تفكّر وتحيى بشكل جماعي فوري. ليس هدفه التصوّر المستقبلي الإفلاطوني، لكن التأمّل الجماعي المباشر.

ذلك ما كان يحصل في المدينة الإغريقية عقب التجربة المسرحية: كان الأثينيون مثلاً (أو «الميكروكوسم» الذي يحضر المسرحية) يمتلكون حقيقتهم الجماعية بعد مشاهدة تفاعلات الآلهة، البشر، العلاقات المختلفة، الانتقامات، الفظاعات… يعيشون حينها، ما أسماه الإغريق بذكاء، «كاتارسيس»: تنقية المشاعر الجمعية بالكوميديا.”

 

لمقاربة الحياة بوعي وأناقة، ليس ثمّة أفضل من هرمونات المسرح: يعلمنا كيف نرى ونتمثّل ونفكِّر ونقاوم. إذ هو الوجه المصغّر للحياة. فالعالم، كما رُوي عن شكسبير: مسرح كبير ممثلوه البشر.

 

عندما يصعب خوض الثورات، يظل هناك المسرح؛ أو كما قال بيتر بروك: “إن لم نستطع تغيير العالم، فنحن نمتلك عبر المسرح، ولسويعات قليلة، مجتمعاً صغيراً مثالياً يسمح بتجاوز تراجيدياته.”

 

ينبغي التمييز هنا بين المسرح والسينما. العلاقة بينهما كالعلاقة بين اللوحة التشكيلية وصورة اللوحة. المسرح مجتمع حي مباشر. فيما وطنُ السينما: الشاشة. بضاعتُها صناعة الصورة ودبلجتها وغربلتها ومسحها وتزييفها وتقطيعها، على نحوٍ يتناغم غالبا مع مصالح قوى المال الهوليودية والبوليودية، وغيرها من مراكز نفوذ “العالَم الاستعراضي” وملياراته.

 

المسرح فن مقاوم، يحافظ على استقلاليته الذاتية والفنية، وابتعاده عن العالم الاستعراضي وأولوياته؛ على تواضع رواتب ممثليه، وبعدهم عن طقوس ضجيج حيوات نجوم السينما، وعدم وقوعهم في قضايا الفساد، كفضائح “أوراق بنما” التي اشترك فيها لاعبو كرة القدم، وقيادات منظماته، ورموز عالم الاستعراضات بمختلف ألوانه.

ثمّ بإمكان المسرح اليوم توظيف السينما كفنّ، كما توظِّف الروايةُ الشعرَ: يكفي أحيانا وضع شاشة في زاوية المسرح تعرض شذرات فيلم يواكب المسرحية ويندمج بها. ذلك حال مسرح اليوم الحديث الذي أضحى يوظُّف الشاشة كثيراً ضمن مواده اللوجيستيكية الأولية.

 

ثمّ لا يخضع المسرح لأي قيود، خلا ما تمليه الضرورات الفنية فقط: مدّة المسرحية مثلا تدوم حسب موضوعها، لا غير: «ماهابهارتا»، إحدى مسرحيات بروك الشهيرة المستوحاة من ملحمة ميثولوجية هندية، تدوم 9 ساعات! مسرحية “2666” تدوم 12 ساعة، موضوعها رواية من 1350 صفحة، للتشيلي روبرتو بالينو؛ وثمة مسرحيات تدوم 24 ساعة!…

 

المصادفة الممتعة لمن يراقب علاقة المسرح بالكرة: 10 يوليو 2016، كان يوم مباراة نهائي كأس “اليورو” بين البرتغال وفرنسا، وكذا يوم العرض الأول لمسرحية “الملاعين” في مهرجان أفينيون لهذا العام. بدآ معا في الوقت نفسه.

نقلت إحدى قنوات التلفزيون الفرنسي الخاصة المباراة، ونقلت أهم قنوات قطاع الدولة المسرحية.

شاهد المباراة عدد أكبر بكثير ممن شاهدوا المسرحية، بالتأكيد. لكن، من يتذكر اليوم هذه المباراة، أو يبحث عن إعادة رؤيتها عبر خاصية RePlay (استحضار برامج قديمة من إرشيف التلفاز)؟ فيما يزداد عدد من يستحضرون المسرحية عبر تلك الخاصية يوما بعد يوم؛ وسيكونون حتماً أكثر من عدد من شاهدوا المباراة، بعد سنين!

 

ما يقلقني وأنا أقارن المسرح بكرة القدم: فرزهما الاجتماعي، وانشقاقهما الطبقي.

يكفي رؤية لاعبي الفريق الفرنسي مثلا: معظمه من شباب الضواحي ذي الأصول الأفريقية السوداء أو العربية الفقيرة. ومعظم مشاهدي مباريات الكرة عموما من الطبقات الاجتماعية الأقل ثراء. في حين لا ترى في صالات المسرح هذه الشرائح الاجتماعية نفسها. ولا تشاهد فيها اللون الأسود أو الأسمر يرفرف بين ألوان المشاهدين كما يرفرف وسط الملاعب.

 

الأسوأ والأكثر إيلاما: عندما ترى مسرحية يُفترض أن تكون بشرة ممثليها بلون أفريقيا السوداء، أو يكون بطلها “عطيلُ” مسرحية شكسبير، ويلعب أدوارهم ممثلون بيض (بحجة ندرة عدد الممثلين السود أو العرب) يَطْلون وجوههم أحيانا باللون الأسود أو الأسمر (!)، كما لو كانوا عربا أو أفارقة، تشعر أن هناك شيئا مقلوبا، بل خطأ جذريا في هذه الحياة!

 

كلمة أخيرة عن العلاقة بين الفنّين: كرة القدم تخدير آني، ما إن نغادره سالمين (إذا نجونا من عنف وشتم بعض المشجعين الخاسرين، ذوي العصبويات الطائشة)، حتى تعود إلينا الحياة عارية صادمة من جديد، على نحو أكثر قساوة من قبل.

 

أما تخدير المسرح فمختلف تماما. تلخصه قصة العبد، في مسرحية بروك: «مؤتمر الطيور» المستوحاة من كتاب «منطق الطير» للصوفي فريد الدين العطار. قضّى العبد ليلته مخدّراً مع أميرة، قبل أن يُرمى عند الفجر في غبار الشارع.

بعد أن استيقظ من تخديره، أسرتْهُ الحيرة. قال: «لا أدري ما حدث لي الليلة الماضية، هل كان حلماً أم لا. ليس ذلك المهم. الأهم: عشت تجربةً ما. صرتُ أبحث الآن عن شيءٍ ما لا أدري ما هو، وأين هو!»