اللغة سلاحٌ ذو حدّين

حبيب سروري

 

اللغة سلاحٌ ذو حدّين. “يمكن استخدامها للإعلام أو للتضليل والمخاتلة”، كما يقول شومسكي. من يمتلكها للتأثير على الآخر، إما بتخديره أو بتنويره، بإخضاعه أو بتحريره، يمتلك السلطة.

 

فهي سلاح الطغاة والظلاميين: تبدأ سيطرتهم على الإنسان بترسيخِ لغةٍ خشبيّةٍ سلفيّةٍ تغلق أبواب التساؤل، وتفرض الخطوط الحمراء على التفكير الحر، وتُسبِّحُ للطاغية أو “للحزب الواحد”، وتمنع الروح النقدية والمعارضة والرفض.

يبدأون خطاباتهم، أكانوا شموليين أو ظلاميين، بالشكل والمضمون نفسه: استشهادات قطعيّة بمقولات أيديولوجية أو دينية قاطعة، هي الصحيحة التي يلزم الإيمان المطلق بها. هدف هذا الخطاب منذ فاتحته: إلغاء الإرادة الخاصة والتفكير الحر والجدل.

 

ثم تتجذّر هيمنتهم على الإنسان عندما يجيدون استخدام اللغة للسيطرة على دماغه، عبر المدارس ووسائل الإعلام، وعبر سرد وتعليم تاريخٍ لا علميٍّ ملفق، وإلغاءٍ ممنهج للذاكرة. يجعلونه بذلك كائناً يعشق عبوديتَهُ طوعاً، ويعتنق الأيديولوجيا التوليتارية أو الأفكار الظلامية ويدافع عنها بيقين كلّي…

يقول وزير الإعلام النازي جوبلز: “بفضل معرفةٍ عميقة ببسيكولوجيا الناس، وبفضل التكرار، يمكن برهنة أن المربع دائرة!”.

 

وتتأبّد أخيراً هيمنتهم على الإنسان عندما يقاومون تجديدَ وتطويرَ اللغة، لتظلّ كما هي: لغة الأجداد. ولأن ثمّة علاقةً فيزيولوجية بين اللغة والتفكير، يظلّ الأخير تفكيراً بروح عصر الأجداد.

في ندوةٍ أخيرة حضرتُها قال لي أحدهم بإعجاب إننا نفهم أبياتَ شعرٍ قيلت في عصر الجاهلية، بينما لا تفهم شعوبٌ أخرى ما قاله كتّابُها قبل قرون قليلة.

قلت له: بالعكس، مقلقٌ ذلك جدا. من غير الطبيعي أن يمرّ 15 قرنا دون أن تتغيّر لغتُنا. ذلك دليلٌ على جمود تفكيرنا وعدم مواكبتنا لتطوّر الحياة والحضارة الإنسانية.

 

لا يوجد أعمق من جورج أوريال في روايته العظيمة “1984” (كتبها في 1948، متعمِّداً قلب الرقمين الأخيرين في العنوان) وهو يرسم طرائق سيطرة “الأخ الكبير” على إنسان “أوراسيا”، عبر لغة “النوفالانج” التي لم تكتفِ مثلاً بتثبيت شعارات مثل “الحرية هي العبودية”، بل سعَتْ لإلغاء واندثار كلمات من القاموس ك “الحرية”، ليختفي مفهوم “الحرية” بذلك أيضاً. لأن مساحة العالم الذي نحيا فيه هي مساحة اللغة التي نستخدمها، ومساحة التفكير هي مساحة القاموس اللغوي الذي يستند عليه.

لذلك فإن تقليص هذا القاموس بحرمانه من كل كلمات الحضارة والمعارف الحديثة التي تتدفُق يوميّاً، ولا تجد لها مرادفاً في اللغة هو تقليص للتفكير وإضعافه.

 

يعود الاهتمام الكبير بهذه الرواية الاستشرافية، مجدّداً اليوم، بسبب تطوّر التجسّس الآلي (الذي تناولناه في مقالات سابقة)، حيث تراقب لاقطات التجسس الآلي اليوم “البيانات العملاقة”، وتسعى للسيطرة على الإنسان على غرار أخطبوط أجهزة “الأخ الأكبر” في رواية أوريال العبقرية.

لا يكتفي هذا الأخطبوط في الرواية بمراقبة كل صغيرةٍ وكبيرة في حياة البريطانيين الذين ترتكز في كل شوارعهم لوحات هذه العبارة الشهيرة:

Big Brother is watching you

“الأخ الأكبر يراقبكم”، بل يستطيع بفضل قواعد نحويّة وقاموسية للغة النوفالونج، تستعرضها الرواية بالتفصيل، من منع الشك والتساؤل والجدل والتفكير.

 

لغة السيطرة التضليلية على أدمغة الناس ليست سهلة الكشف والدحض والتعرية. تستند على أبديّةٍ من التجارب التاريخية، والمعرفة بخريطة نفسيّة الإنسان.

لذلك أوصى شومسكي بأن يكون هدفنا الأوّل الاهتمام بأدمغتنا والحفاظ عليها من تأثيرات المنظومات العقائدية والخطابات التضليلية للدولة ووسائل الإعلام. “لو كان لدينا مدرسة جيّدة، لكان أوّل موادها: تعليم الدفاع الذاتي من هذه التأثيرات”، كما يقول.

 

واللغة أيضاً سلاح التنويريين والأحرار والثوريين: بها يوقظون لدى الإنسان روح حب الحرية. ينشرون التنوير والمعارف. يحرّرون الدماغ من تضليل ثقافة الطغاة والظلاميين وثوابتهم الأيديولوجية. يقارعون بها، عبر الأدب وبالخطاب التنويري، لغةَ التخلف والتقوقع والانكفاء. يؤججون الحلم، يفجّرون الأمل والبهجة، ويشيّدون ثقافة “حريّة الضمير” والانفتاح على الآخر…

 

كلّ الثورات التي نقلت الإنسانية إلى الأمام، منذ الثورة الفرنسية حتّى سقوط الأبارتايد وعددٍ من الأنظمة القمعية الأيديولوجية في العقود الأخيرة، لم تنتصر إلا لأن لغةً جديدة قاومت بنجاح اللغة الخشبية أو الظلامية السائدة.

وذلك منذ لغة قرن الأنوار الذي مهّد للثورة الفرنسية، إلى لغات مقاومة الستالينية السوفيتية وطغاة العالم الثالث، مروراً ب “ربيع براغ” في 1968 من “أجل اشتراكية بوجهٍ إنساني”، تألّقتْ أثناؤه الإبداعات الأدبية المناهضة للتوتاليتارية، والنشاطات الأدبية تحت الأرضية Samizdat، لِتُفجِّر لدى الناس مزيداً من العطش للانعتاق والحرية.

أذكّرُ كمثل التصفيقَ الشعبي المحموم للممثل التشيكي رودفان لوكافسكي عندما انزلقت منه وهو يمثِّل مسرحية هاملت هذه العبارة الشهيرة الخالدة: “ثمّة شيءٌ عفنٌ في مملكة الدنمارك!”، ساخراً من الإمبراطورية السوفيتية التي سقطت بعد عقدين من ذلك، خلال ربيع شعوب أوربا الشرقية.

 

تحرير اللغة من المسلمات الظلامية، من الكذب والتضليل، من عداء العِلم والحريّة والآخر، ومن سلطة فقهاء الظلمات، يتطلب لغةً ثائرةً حرّةً مناهضة، تتناغم مع العصر، تتجدّد قواميسها كل عام، تنفتح على الحداثة شكلاً ومواضيعاً كل لحظة، وتفتح فضاءات الحرية والخلق والإبداع على مصراعيها.

لغةٌ ترفض لغة الطغاة والظلاميين الخشبية الموبوءة الممسوخة. تواجه منعهم للتفكير والنقد والرأي الشخصي، بلغة مضادّة: “لغة الدفاع الذاتي”، كما أسماها شومسكي، لغة الحريّة بدون قيدٍ أو حدود. تواجه طمسهم للإنسان وتضليله، بفضل لغة الحقيقة و”الأنا” الحرّ، لغة الإنسان الذي يصنع ذاته متحرراً من كل السلطات.

 

يبدأ كل شيء بالكتابة والإبداع. الكتابة أوّلاً حربٌ ضدّ هدفِ السلطات القمعية الأوّل: النسيان. يقول كونديرا: “نضال الإنسان ضد السلطة، هو نضال الذاكرة ضد النسيان”.

ثمّ هي المدخل الرئيس لثقافة التنوير والعقل والمعرفة البهيجة، ولِنشر لغة الحريّة والمقاومة والثورة وتجذير قيمهم في حياة الإنسان.

وهي الوسيلة لِمعرفة الآخر الذي تسعى الثقافة الظلامية لِطمسِه، والطريق للتفاعل معه والتوحّد به تحت شعار: “أنا الآخر”.

 

هي وعاء الجدل الحي، والتجديد الدائم، واليقظة من تأثير لغة الظلمات والتوليتارية. أي باختصارٍ شديد: لغة بناء الحضارة والدفاع عليها وتطويرها المتواصل.

 

فكما يقول نيتشه: دور اللغة في تطوير الحضارة تكمن في اتكاء الإنسان عليها لبناء فضاء متماسك صلب يهزّ به العالم ويسيطر عليه.