الكتاب الورقْـــمِي: البرمائيةُ هي الحل!

حبيب سروري

الكتاب الورقـــمي يحمل اسمه بجدارة: هو كتابٌ ورقيٌّ ورقميٌّ في الآن نفسه!

ماذا يعني ذلك؟

هو كتابٌ تتعانق فيه كل مزايا الكتاب الورقي مع كل مزايا الكتاب الرقمي، في وحدة بيولوجية لا تنفصم، كما تتعانق في الحيوانات البرمائية مزايا الحيوانات البريّة والمائية في الوقت نفسه!

 

لماذا، وكيف يمكن ذلك؟

لئلا يجد أحد سكّان الأرض، لا سيّما نحن العرب، حجّةً لعدم القراءة. أي لعدم التهام الكتب الورقية والرقمية معا، أو بكلمة واحدة: الورقـــمية.

 

فكلّ أولئك الذين لا يحبّون قراءة الكتب الرقمية، على القارئ الإلكتروني كجهاز كندل أو على الكمبيوتر، بحجّة أنهم يعشقون رائحة الورق، والنومَ بصحبة الكتاب الورقي وهم يلمسون صفحاته بحنان، ويديرونها بشوق وعشق، لن يستطيعوا رفض الكتاب الورقـــمي لأنه أيضا كتاب بِورق تقليدية، يقلبونه في كل الاتجاهات كما يقلبون الكتاب الورقي، لدرجة أنهم لا يشعرون بأي فرق بينه وبين أي كتاب ورقي.

لِصفحاته رائحة الورق التي تعوّدوا عليها، وبإمكانهم أيضاً أن يختاروا لها روائح أخرى كما يُحبّون: روائح الكافور، الحُلبة، الجوز الهندي، الحبر، الورد، العطر…

 

تستطيع هكذا، عزيزي ابن قبيلة الورقيين، قراءته كما تقرأ الكتاب الورقي، وتقليب صفحاته كما اعتدتَ على ذلك، حتى على الشاطئ تحت الضوء الساطع الذي لا يلائم شاشة الكمبيوتر أو الهاتف محمول، لكنه يلائم جهاز القارئ الإلكتروني، بفضل خاصية “الحبر الإلكتروني” لشاشة هذا الجهاز: لا ينبعث الضوء منها كما هو حال شاشة الكمبيوتر، لكنها تعكس الضوءَ كما تعكسه صفحات الكتاب الورقي، ولا يمكن لذلك قراءة شاشة القارئ الإلكتروني في الظلام، كما هو حال الكتب الورقية.

 

لكنك تستطيع، مع الكتاب الورقـــمي، أن تصغي في الظلام الدامس لِصوت رقيق رخيم ينبعث من أعطاف صفحاته، يذيب القلب، يواصل قراءة النص لمسمعك من حيث توقفتَ عند انقطاع الضوء.

إضافة إلى كل ذلك، تنبعثُ، لمن يهوون القراءة مع سماع الموسيقى، مع كل نص يقرأونه في الكتاب الورقـــمي موسيقىً تواكب النص بتناغم بديع. وبإمكانهم أيضاً اختيار القطع الموسيقية التي يودّون سماعها مع هذا النص أو ذاك.

 

هكذا لا يستطيع عاشق الكتاب الورقي النفورَ من الكتاب الورقـــمي، لأنه يجد نفسه يقرأ كتاباً ورقيا كعادته، بكل مزايا الكتاب الورقي التي لا يريد خيانتها؛ وبعدد لا نهائي إضافي من المزايا الرقمية المدهشة الجديدة.

 

في الجانب الآخر، لا يستطيع عشاق القراءة الرقمية، الذين لا يسبِّحون إلا بحمد النص الرقمي ذي المزايا الكاسحة الجديدة التي غيّرت وجه الحضارة الحديثة، رفض أو استهجان الكتاب الورقـــمي، بحجّة أن “القراءة غير الرقمية ليست قراءة”، أو “القراءة بدون شاشة ليست قراءة”.

 

فعلى كل صفحة من صفحات الكتاب الورقـــمي ينطبع النص الرقمي تماماً كما ينطبع على الشاشة اليتيمة للقارئ الإلكتروني أو الكمبيوتر. ويكفي أن تمسّ بأصبعك هذه الكلمة أو تلك، لتظهر عليها نافذة صغيرة تحوي معناها في القاموس، أو تعريفها في الموسوعة، تماماً كما يمكنك فعل ذلك في القارئ الإلكتروني.

وجهاز الكتاب الورقـــمي، مثل القارئ الإلكتروني، خفيف الوزن (بضعة مئات من الجرامات)، صغير الحجم مثل كتاب الجيب، يحوي عددا من الأوراق الإلكترونية، كأي كتاب ورقي صغير، لا تتجاوز المائة غالبا، لها جميعا خصائص الشاشة اليتيمة للقارئ الإلكتروني.

 

يكفي أن تختار فيه قراءة الإلياذة مثلا، لتمتلئ الصفحات المائة منه بأول مائة صفحة من الإلياذة، ثم بالمائة الثانية، والثالثة، وهكذا دواليك.

هو، هكذا، حضنٌ لا نهائي يستوعب، على نحو دائري، أي كتاب مهما كان حجمه. وهو، لذلك، كتاب لا نهائي، لأنه يتسع لكل كتب الأرض.

فهو أمازون، وهو مكتبتك ومكتبتي، وكل مكاتب الفراشين أيضا في كل بقاع الأرض…

 

لا يمكن إذن لعشاق الكتب الرقمية إلا الانسجام مع الكتاب الورقـــمي بفضل هذه الملَكات الرقمية العبقرية الخالصة، هم الذين يزدرون الكتب الورقية لأنها غير عملية غالبا، لا يمكنها أن ترافقهم في الجيب والأسفار، لاسيما إذا كان تصميمها مقرفا وغريبا جدا، مثل حال الإلياذة (في طبعة المجلس الأعلى للثقافة، مصر)، المخرجة في كتاب مجلد ضخم من الورق الفاخر الثخين، وزنه 5 كيلوجرامات تقريبا، حمله يشرخ الكتف عموما، ولا يمكن قراءته على السرير أو الحمام؛ فيما يمكن طباعة الإلياذة في كتاب صغير الحجم، هوائي أنيق وعمليٍّ جدّاً، من بضعة مئات جرامات لا غير!

 

إذ أن أمّهات الكتب لا تطبع على طريقة الأصمعي عندما كتب قصيدته الشهيرة “صوت صفير البلبل”، المعقّدةَ الألفاظ، على جلمودٍ من الصخر، كمطبٍ للخليفة البخيل أبي الجعفر المنصور الذي لم يكن يكرم الشعراء من بيت مال المسلمين.

كان يقول لهم إنه سيمنحهم وزن قصائدهم ذهبا، شريطة أن تكون جديدة. ثم يعتبرها، من باب الخديعة الماكرة، قد قيلت من قبل؛ والدليل أنه وغلام وجارية له قد سمعوا بها أيضاً!

في حين أن الخليفة كان يلتقطها في ذاكرته، بفضل قوة حافظيته، حال سماعها لأول مرة، ويرددها كما لو كان يعرفها من قبل! وكذلك غلامه الذي يرددها بعده، لاحتياج حافظيته لسماعها مرتين أوّلاً، ثم الجارية أخيراً التي تحتاج لسماعها ثلاث مرات لحفظها وترديدها.

عندما جاءه الأصمعي متنكرا بهيئة إعرابي وقرأ قصيدته على جلمود الصخر، فشل الخليفة في ترديدها بعده، وكفّ عن عدم إكرام الشعراء على “نقلهم ومنقولهم”.

 

فأمهات الكتب تطبع مثلاً في سلسلة “البِليّاد” (الكوكبة)، غاليمار، في كتب ارستقراطية أنيقة مجلّدة، لكنها صغيرة وخفيفة جدا!

 

يزدري الرقميون الكتب الورقية لأنهم يحملون في القارئ الإلكتروني الصغير (مثل كندل) ملايين الكتب في اللحظة نفسها، وليس كتاباً ورقيا واحداً فقط، مهما كانت خفته وأناقته.

في حين يجدون في الكتاب الورقـــمي كل مزايا الكتاب الرقمي وأكثر، لا سيّما تلك التي يبدو الكتاب الورقي مقارنةً بها من بقايا عهد عاد: روابط النصوص التشعبية الفائقة (Hyperlink) التي يَسمح مجردُ لمسِها الإنتقالَ إلى صفحة أو موقع أو كتاب أو مرجع آخر في أي مكان في الدنيا، وكذلك إمكانية وضع نافذةٍ، تتخلّل الكلمات والفقرات، لِصورةٍ رقمية، أو مقطع فيديو من فيلم أو يوتيوب!…

 

سيبدو الكتاب الورقـــمي للقبائل الرقمية هكذا أشبهَ بالقارئ الإلكتروني في الجوهر، اللهم إلا أن الانتقال عليه من ورقة إلى ورقة يتمّ كالكتاب الورقي تماما، بقلب الصفحة، بدلا من لمس أسفل شاشة القارئ الإلكتروني للانتقال إلى الصفحة التالية.

معه سيحققون حلمهم بِرَمي كل المكتبات الورقية المنزلية والجامعية وغيرها إلى الزبالة، واستغلال مساحتها لمآرب أخرى، كما تُستبدل اليوم محطات وقوف السيارات، في بعض الأحياء والمدن التي تغيّرَ فيها منهج المواصلات بغية تقليص نفث غازات الاحتباس الحراري، بحدائق أو متاحف أو متاجر…

 

باختصار: بعد الكتاب الورقـــمي، لن تلوك قبائل الورقيين حديثها المقرف عن حاجتها العضوية لاستنشاق رائحة الورق أثناء القراءة، لأن الكتاب الورقـــمي يوفرها لهم، بين عدد لا محدود من المزايا.

وستبتهج القبائل الرقمية لأنه يحوي كل مكتبات الدنيا في كتاب واحد. فهو الكتاب الورقي اللانهائي الخفيف الذي يستطيع أن يتحول، على نحوٍ ميتامورفوزي، إلى أي كتاب!

 

خطر لي، في الحقيقة، حلم فكرة هذا الكتاب الورقـــمي عندما سمعت أحد قراء مقالاتي يعبر عن رفضه الحاد للقارئ الإلكتروني، بحجة حاجته لاستنشاق رائحة الورق!

ذكّرني ذلك كابوساً لا يُنسى: عندما رفضت الإمبراطورية العثمانية وبلادها العربية دخول المطبعة إليها، خلال 3 قرون، بحجة ضرورة الاكتفاء بالمخطوطات الحبرية فقط، لأن “حبر العالِم أقدس من دم الشهيد”!

 

استحضرتُ تطوّرَ المدن الأوربية حال وصول المطبعة إليها بشكل تجاوز سريعا المدن التي لم تدخلها المطبعة. ارتفعَتْ معدلات نموّها حينذاك، في أقل من نصف قرن، لتسحق المدن التي تلكأت عن ذلك. ثم تدافعت بعدها الاختراعات والاكتشافات هناك، بسرعة مذهلة، لتنقل ديار المطبعة إلى أعلى الحضارة، فيما توقفت ديارُ “حبر العالِم” ـ ديارُنا ـ التي كانت مع ذلك في طليعة الحضارة، وتقهقرت نحو مؤخرة المؤخرة.

 

أعترفُ هنا: لا تخلو فكرة هذا الجهاز الورقـــمي من العبث والفانتازيا، لأنه يستبدل شاشة القارئ الإلكتروني المستندة على تقنية الحبر الإلكتروني، بمائة شاشة مثلها، لها هيئة الورق ورائحته، مرتصة مثل صفحات الكتاب الورقي.

 

لعل حلم تصميم هذا الكتاب ونزوته الطائشة جداً راودتني بسبب عقدة كابوس رفضنا كعرب لدخول المطبعة إلى ديارنا، وخوفي المرَضي من عدم استغلالنا المثابر الجاد للتقنيات التكنولوجية الجديدة، كالقراءة الرقمية والقارئ الإلكتروني، لردم الهوّة التي تفصلنا عن عالم المعرفة، والإسراع باللحاق بركب الحضارة!