الرواية في المعارك الروحية

(شهادة ذاتية لندوة الكتابة الجديدة بمعرض الكتاب في الدار البيضاء ٢٠١٥)

حبيب عبدالرب سروري

من نافل القول أن الحياة حروبٌ دائمة: اقتصادية، عسكرية أحياناً، حروب الآلهة في الأولمب، حروبهم ضد الشياطين، حروب البشر الدائمة في يوميات حيواتهم الاجتماعية، حروب الذات مع نفسها (أو«جهاد النفس»، كما يقول الحديث الشريف)… «الحرب أبٌ لِكل لشيء»، كما قال هرقليطس.

ولعلّ عالية نبع نهر الحروب هي الحرب الروحية. تلك التي يحاول بشرٌ خلالها السيطرة على أرواح آخرين، أي على عصبونات أدمغتهم، لِغرس مسلّماتٍ وآيديولوجيات فيها؛ أو لمقاومةِ ذلك الغرس.

«الحرب الروحيّة لا تقلُّ شراسةً عن معارك الفرسان» كما قال آرثور رامبو في «فصلٍ في الجحيم». ومن يكسبها، «يمتلك الحقيقة في روحٍ وجسد»، حسب تعبيره الذي اعتنى بالإشارة إليه. به يهيمن على أجساد وعقول بشرٍ يوجّههم كيفما يشاء، للجهاد أو للسلام، للخير أو للشر…

لن أتطرّف مثل الإمام الخميني الذي قال: «إن لم يكن الإسلام سياسةً فهو لا شيء» لأقول: «إن لم تكن الرواية حرباً فهي لا شيء»، لكني سأكتفي بالقول بأن المعارك الروحية مادةٌ أثيرة للرواية، شريطة أن تستثمرها بتقنيات روائية فنيّة راقية.

سأتعرض في هذه الكلمة لِشرارات حروبٍ روحية اندلعت منها روايتي الخامسة «تقرير الهدهد» (٤٠٠ صفحة، دار الآداب)، والسابعة «ابنة سوسلوف» (دار الساقي) (فصلَتْهما رواية حربٍ غرامية «أروى»، ليس محلّها هذه المداخلة).

لعلّ أحد أهم جبهات الحروب الروحية: رفض المؤسسات الظلامية للاكتشافات العلمية، من جاليلو إلى الآن، مروراً بداروين.

من تابعَ مثلاً تاريخ نظرية النشوء والارتقاء البيولوجي، منذ كتاب « أصل الأنواع » حتّى الآن، مروراً بالاعتراف الرسمي للكنيسة الكاثوليكية بها في ١٩٩٦، سيتوقّف عند عام ٢٠٠٩ الذي احتفل العالم المتطور فيه، بشكلٍ استعراضي، بمرور قرنين على ولادة داروين، وقرن ونصف على صدور كتابه.

كان عاماً غنيّاً بنشاطات ثقافية وعلمية لا مثيل لها قط، كمّاً وتنوّعاً. لم تتوقّف أية مؤسسة أو منبر ثقافي أو تعليمي غربي خلال ذلك العام عن انتهاز الفرص للانحناء أمام صاحب النظرية، بما ذلك كثيرٌ من الروايات، وكأن الحضارة الحديثة، وهي تهب اسمه لأهم بنايات جامعاتها وصالات محاضراتها وشوارعها، ومدنها أحياناً، تُحصِّنُ نفسَها به من عدوٍّ قديمٍ قادم!

تمَّ خلال ذلك العام، على هامش الاحتفال، حصرُ قائمةٍ كبيرة من كل مفكري وكتاب الأرض، منذ عهد الإغريق إلى قرن التنوير، الذين قالوا، بشكل حدسيّ، كلمتين صغيرتين حول وحدة الكائن الحي، وتطوّره البيولوجي الدائم. كفى ذلك لتمجيدٍ جماعي لِعبقريّةِ القائل وألمعيةِ حدسه…

عشتُ ذلك العام بشغف، من ١ يناير حتّى ٣١ ديسمبر. تابعتُ بيلوجرافيا مختلف تلك الأسماء، آملاً أن أجد في رواية أو مجلة أو كتاب اسم فيلسوفٍ عربيٍّ قال في هذا الجانب قبل أكثر من ١٠ قرون، بحدسه الاستثنائي، أهمَّ وأعمقَ مما قاله كل كوكبة أولئك المفكرين والكتاب.

قال:

1)    والذي حارتِ البريّةُ فيهِ

حيوانٌ مستحدَثٌ من جمادِ

2)    أرى الحيَّ جنساً ظلّ يشملُ عالمي

بأنواعهِ، لا بوركَ النوعُ والجِنس!

3)    جائزٌ أن يكونَ آدمُ هذا

قبلَهُ آدمٌ على إثرِ آدم!

أعترفُ أن دمعتين خانتاني في صباح ١ يناير ٢٠١٠، أمام صديقين مغربيين قضيَا رأس السنة في منزلنا! ليس بسبب عدم ذكر الفيلسوف فقط في تلك القائمة، بل لأن لهذا العبقري، الذي «لو صعدَتْ شعوبنا على كتفيهِ السامقين لَرَأتْ أبعدَ وأفضل. لَشاهدَتْ ما وراء السياج، ما وراء الأفق!»، مشروعٌ أدبيٌّ فلسفيٌّ أخلاقيٌّ إنساني كامل، يمكن تلخيصه بكلمتين: «لا إمام سوى العقل»، هو جذوة حربنا الروحية ضد الظلمات، وطريقنا باتجاه النهضة والتنوير والعقل.

لم يكن لبكائي مبرر، لأن صاحب هذه الأبيات منسيٌّ في عقر داره أساساً، قطع فيها رأس تمثاله الوحيد. يعيش على الدوام تعتيماً متعمَّداً. أليس ذلك سلاحٌ تقليديٌّ للقوى الظلامية في حربها الروحية، فيما سلاحنا: الذاكرة والعلم الحديث والكلمة الحرة والمرح؟

منذ صباح ١ يناير ٢٠١٠ وحتى عيد ميلاده: ٢٧ ديسمبر ٢٠١٠ (قبيل غروب الشمس ولِدَ أبو العلاء!)، كتبتُ «تقرير الهدهد» التي اندمج فيها التخييل الروائي بالسيرة الذاتية لِرهين المحبَسين، أو بالأحرى لِ «طليقِ الجناحين»: الشعر والفلسفة.

إذ له في الرواية، معشوقته: طالبته القديمة، هند، تحميه عن بعد مثلما تحمي أثينا بطل الأوديسيا، عولس، في حربه ضد إله البحر بوسيدون، وتنجب منه أهم أبطال الرواية بعد الشاعر: نور!

«في حناياها أودعَ الشاعرُ الضريرُ الذي قِيلَ إنه قال:

هذا جناهُ أبي عليَّ        وما جنيتُ على أحد

جنيناً صغيراً في غاية الحسنِ والعذوبة، اسمهُ: نُور، جدّتي الثانيةَ والثلاثين (عطّرَ اللهُ ثراها، وأسكنَها قصراً يُطِلُّ على أسنى حدائقِ جنّاتِه!)»، كما يقول راوي «تقرير الهدهد»، آخر سلالة أبي العلاء المهدّدةِ اليوم بالانقراض، والذي يحيا في عصرنا وينتظره موعدٌ قدريٌّ مع أبي النزول.

أبو النزول هو أحد أوجه أبي العلاء في الرواية: يكلِّفه «الأعلى جدّاً»، ومدير مكتبه أمينيائيل، بالنزول إلى الأرض في رحلةٍ معاكسةٍ لرحلة «رواية الغفران»، لِكتابة تقرير خطيرٍ جدّاً: «تقرير الهدهد» عن أوضاع العالم والعرب اليوم.

يكتبه خلال رحلة زمكانية يعبر فيها، بمفعولٍ رجعي وهو يلهث وراء أشعة الضوء التي تحمل صور الماضي، كل تاريخ الكون منذ الانفجار الكوني الكبير، سارداً أهمّ منعطفاته الكبرى كما يراها بأمّ عينيه، ومستشهداً بأبيات كثيرة لأبي العلاء، طليعيةٍ حدسيّةٍ سبقت زمنها كالعادة بكثير…

ما إن انتهيتُ من كتابة «تقرير الهدهد» (يوم عيد ميلاد الشاعر، في منتصف الشهر الذي فصل موت بوعزيزي وهروب بن علي من تونس) حتى أنطلق «الربيع العربي» (ليس بسبب الرواية، لسوء الحظ!).

عشتهُ بكلِّ جوارحي منذ اندلاعه كثورة فجّرها شباب الفيسبوك بعقلية حديثة مستقلة عن الأحزاب السياسية الفاسدة، حتّى استيلاء الإسلام السياسي عليه. وراقبتُ الربيع اليمني، بشكل خاص، الذي أعرف تضاريس مسارحه تماماً.

مثل بقية ثورات الربيع سقطت ثورة اليمن سريعاً في هاوية الإسلام السياسي ومصالح الأحزاب السياسية المشبوهة الفاسدة. جنّ جنوني وأنا أرى كل الأوجه المرعبة (مثل الأب الروحي لابن لادن، المتخصص بغسيل الدماغ الظلامي، وعلماء برّروا على الدوام الزواج البيدوفيلي للطفلات القاصرات) يتهافتون إلى ساحة التغيير، يلقون خطب «الجمعات الثورية»، ويوجّهون الساحات التي تندلع منها «مليونيات» لا اختلاط فيها بين الجنسين، وأخرى ترعب النظر: سيلٌ بشريٌّ كثيف من نساء مكيّسات من أقمص الرأس إلى أخمص القدمين بأنقبة طاليبانية سوداء، تشبه أحياناً أكياس قمامة.

من هنا برزت الشخصية الرئيسة لابنة سوسلوف: فتاةٌ كانت لها في عدَن علاقة حبٍّ عذريٍّ بريء بالراوي عمران، ولدت في بيت مؤدلجٍ سوسلوفيٍّ من جنوب اليمن، عاشت في طفولتها (كجرحٍ نفسيٍّ لا يندمل) كل نفاق وإخفاقات وحروب وفشل هذه التجربة الماركسية التي يحوم طيفها في كلِّ أرجاء الرواية (المسكونة بنزيف مدينةٍ عربيّةٍ ساحرةٍ تحتضر: عدَن).

يستقطبها إثر ذلك الظلاميون ويرسلونها إلى قصر شيخهم في صنعاء، لتتحوّل إلى سبيّتهِ وطفلتهِ ومعشوقتهِ وزوجةِ ابنهِ في نفس الوقت، وإلى قائدة الحركة النسوية للإسلام السياسي في اليمن أيضاً. يتغيّرُ اسمُها من فاتن إلى أمَة الرحمن!…

تعود بالصدفة الخالصة علاقة الغرام العنيفة بين أمَة الرحمن والعلماني عمران الذي يهربُ بين الآن والآن من الغرب إلى عدَن وصنعاء، حاملاً كلّ جراح الدنيا بعد وفاة زوجته نجاة في حادثٍ إرهابي مشهور، قبل سنين من اللقاء القدري بمعشوقة الطفولة، فاتن…

تتطوّر العلاقة الغرامية الكثيفة السريّة وتتقدّم زمنيا حتّى موعد الربيع اليمني. تتفجّر حينها ملءَ الرواية حربٌ روحيّةٌ عارمة بين عاشقين يناضلان في قطبين مختلفين من نفس الثورة. تكشف العلاقات الجنسيّة الملتهبة فيها، أيّما كشف، أقنعة نفاق الإسلام الداعشي.

مثل غيره، يسير الربيع اليمني نحو الهاوية. ينهزم عمران. يغادر بلدان «الضجيج المطلق والغباء المطلق»، بلداننا العربية كما يسميها، باتجاه بلاد «الصمت المطلق والذكاء المطلق»، الصين، مع رفيقته الجديدة يانليو، ليبدأ «فصلاً في الصين»، وكأنه في دورة تدريبية لتعلّم «فن الحرب»: فلسفة المحارب الأذكى سان تزو الذي قال: «يكمن فن الحرب في هزيمة العدو دون مواجهة، دون أدنى خسارة، دون قطرة دم!»، كما لو كان عمران بانتظارٍ موعدٍ جديد، مع ربيعٍ قادم، سيعود منه منتصراً كما عاد آرثور رامبو بعد «فصلٍ في الجحيم»، قائلاً: «هكذا أستطيع القول بأن النصر في حوزتي!».

هذا كل ما لديّ تقريباً من جديد في «دفتري الحربي» (mon carnet de guerre)! لا قيمة له بالطبع إن لم يكن قد سُرِد في بنيات روائية مبتكرة، وبتقنيات تشدّ القارئ، تتقاذف به، تربكه وتدهشه.

للمتخصصين في النقد وحدهم الحق في الحديث عن ذلك، وتقييمه. فيما يتعلق بي، حاولت في الروايتين أن أجعل القارئ يعيش في أبعاد مختلفة في نفس الآن: تاريخية، غرامية، أدبية، اجتماعية، ميتافيزيقية، علمية، فلسفية… وأن استحوذ، في نفس الوقت، على أكبر مقدار من مناطق دماغه المرتبطة بهذه الأبعاد.

حاولت في كلتيهما أن أجعل الحاضر يتداخل بالماضي، الجدّ بالمرح، الواقع بالخيال؛ وأن أخلِّل السرد بشذرات حوارات نمطية ترتبط أكثر أو أقل بسياقها الروائي.

عدا ذلك، حاولت في « تقرير الهدهد » مشج ٣ روايات معاً: روايةِ سيرة أبي العلاء؛ روايةِ رحلة أبي النزول الزمكانية التي بدأت، في « مقهى الكوكبة »، بشدٍّ وجذب بالإس إم إسات بين أمينيائيل وأبي العلاء (يقع المقهى في السماء ٧٧، سماء الأفكار، حيث لاينشتاين، داروين، فرويد، وبيكاسو، وأبي العلاء: موقعُ كوكبةِ الكوكبة)؛ وروايةِ حياة الراوي، سليله الثالث والثلاثين، ومشروع لقائه القدري الغريب بأبي النزول.

وفي « ابنة سوسلوف » حاولت ابتكار علاقة خاصة بين الواقع والتخييل: تبدأ بعض فصولها بمنشورات فيسبوكية، أحداثها واقعية، تؤثث مسرح الرواية الزمكاني. غير أن فصول الرواية التي تدور في ذلك المسرح تخييليةٌ خالصة، نقيةٌ من التنظير والتفاصيل التاريخية، تربطها بالمنشورات الفيسبوكية حبال سرة وعلاقات حميمية، تجعلها تُسقِط القارئ بسهولة في فخ اعتقاد واقعيتها الأكيدة، وتذكي كل غرائزه التلصصية…

حاولتُ فيها تعزيز تجربةِ الأبعاد المتعددة المذكورة أعلاه، ليس في الموضوع فقط هذه المرّة، ولكن في آليات السرد أيضاً، حيث يمكن قراءة الرواية كسردٍ روائي تقليدي حيناً، كحوارٍ مستمرٍّ مع قابض الأرواح، كمشروعِ حوار معه، كاستعدادٍ افتراضي لتوقع أسئلته أثناء الحوار معه…

كل شكري الخالص لوزارة الثقافة المغربية على دعوتي لمعرض الكتاب ٢٠١٥.