الرواية العربية المهاجرة

أثر المكان في تبدّلات الوعي

أعمال الروائي حبيب عبد الربّ سروري نموذجاً 

*عزت عمر

تقديم

فبل الشروع في البحث تنبغي الإشارة إلى أنه ثمّة فارق بين أن يغادر المهاجر البلاد التي نشأ فيها وهو في العشرين من العمر من مثل الروائي اليمني حبيب عبد الربّ سروري، وبين أن ينشأ في مدينة أو عاصمة أوربية ثمّ يكتب رواية عن بلاد ينتمي إليها ولم يرها من مثل الروائية العراقية حوراء الندّاوي في روايتها “تحت سماء ستوكهولم”، فكلاهما في الكتابة عبّر عن حال اغترابية، ولكن لكلّ منهما خصوصيته وأسلوبه البنائيّ الذي سيبدو واضحاً في سياق الرواية.
فمن خلال أعمال الشاب المبتعث حبيب سروري الذي أصبح أستاذاً جامعياً فيها، لاحظنا أنه أتيح له خزان كبير من الرموز والذكريات التي عاشها في زمان ما قبل البعثة، فعمل على توظيفها في سياق الأحداث باعتبارها المحطّة الأولى والمركز المرجعي الحاضر في الذاكرة الذي يمكّنه من إقامة المقارنات بين بلد المنشأ وبلد الاغتراب، غير أنّ ما وصفناه بالخزّان سوف يتناقص باستمرار بسبب مرور الزمن، فإذا افترضنا أن الشخصية هاجرت قبل 30 أو 40 سنة فإن ذاكرته ستحتفظ بصور ما قبلهما للمكان وللأشخاص بما يشبه صور الشباب الذي كنّا عليه في ذلك الزمان، بينما في الحقيقة سيكون أصحاب هذه الصور قد أصبحوا كهولاً أو شاخوا وماتوا، وأصاب التطوّر أمكنة لهوه فلم تبق على تلك الحال، مما يضطره للتعويض عن هذا الفراغ توظيف الخيال والتقنيات التي تكسب الرواية روائيتها. 
أمّا الشابة حوراء الندّاوي التي نشأت في بلاد المهجر وتعلّمت لغتها واكتسبت ثقافتها فإنها ستكتب عن بلادها هناك معتمدة على ذاكرات الآخرين: احاديث الأهل والأقرباء فضلاً عن الإنترنت والمنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي، فاتجهت كتابتها إلى بنية حنينية مشبعة بعواطف شاعرية رومانتيكية، عوّضت بها ذلك الحرمان من الذكريات بالبلاغة والشاعرية في الغالب، فصلاً عن اللجوء إلى التاريخ المدوّن باعتباره مشتركاً جمعياً يمكن الاعتماد عليه في حبك الأحداث وبناء الرواية التي ستبدو وفق هذا النمط سياسية أو ثقافية تعود إلى تلك ذاكرة.
وبذلك فإنه يمكننا القول أن كليهما سيعتمد الخيال لملء الفراغات مهما كانت هذه الفراغات كبيرة أو صغيرة، ومن هنا فإننا نلرى أن الرواية، هي بنية متخيّلة حتّى لو استلهمت أحداثها من سيرة الروائي الذاتية.

إشارة ثانية

في هذه الورقة، عاينا ثلاث روايات لحبيب سروري، وهي على التوالي:

1 .”ابنة سوسلوف”، دار الساقي، 2014.

2 “الملكة المغدورة” التي صدرت بالفرنسية عام 1998، ثمّ ترجمت إلى العربية

3 “حفيد السندباد”، دار الساقي، 2016.

 

الروائي حبيب عبد الربّ سروري،،

غادر عدن قبل نحو 4 عقود إلى فرنسا في بعثة دراسية، وبقي فيها بعدما نال درجة الدكتوراه في علوم الكمبيوتر وأصبح أستاذا جامعياً في جامعة روان، وكنّا قرأنا له روايته الأولى “الملكة المغدورة” حال صدورها وتبيّن خلالها أنّنا إزاء مشروع روائيّ انطلق من باريس وحدوده مفتوحة على عالمي الشرق والغرب بما أنتجه حتّى اليوم من روايات اشتهرت وطبعت في دور نشر لها سمعتها[1].

 

 

1 باريس،، تبدّلات الوعي

 

روايته “ابنة سوسلوف” تعاين أزمنة وأمكنة مختلفة ما بين باريس وعدن وصنعاء وفق محطّات منتقاة بعضها تاريخي، وبعضها الآخر مستلهم من سيرة الروائي الشخصية الممثّلة بالسارد عمران في الأمكنة ذاتها حيث النشأة في زمان الاشتراكية في العاصمة عدن، والسفر إلى باريس حيث الدراسة واستعادة وعيّ ضللته الأيديولوجيا الحزبيّة والحماسة الثورية التي كانت سائدة في سبعينيات القرن الماضي.

وعيٌ استجدّ عبر المقارنة المكانية والحضارية وعبر حبّ صاعق لفتاة اسمها “نجاة” وهو اسم الناضح بدلالته الخلاصية، وقد ولدت من أم فرنسية وأب يمني، تنتمي لليسار الفرنسي بمواقفه المعروفة من الستالينية التي كان السارد عمران مسكوناً بها، فقد تربّى على قيمها العنفية واعتبرها حلاً مناسباً لمشكلات العالم، غير أن “نجاة” ستمكّنه من الفهم وإمكانية تقبّل العالم وفق رؤية ديموقراطية مشبعة إنسانياً تقبل بالاختلاف والحوار، “كنتُ ستالينيَّ النخوة بلا وعي، وإن كنت ألوِّح يوميّاً بعدائي الشديد وإداناتي للستالينيّة”[2]

وكان عمران الشاب العشرينيّ متقوّقاً في دراسته ويتّسم بذكاء وتفكير مكّناه من قيادة زملاء الدراسة في عدن، فضلاً عن أنه يمتاز بالطيبة والنبل، وقد ساعدت هذه العوامل في استجابته، مقتنعاً بأنه شتّان ما بين تلك الحياة في عدن وبين باريس وعلى حدّ تعبيره: ” هومو)يمَن(انس يتحوّل إلىهومو سابيانس (الإنسان الجديد) وهو يذوب في لغة وحياة عاصمة الثقافة والفن والحب. المدينةالكونيّة الواحدة الإحدى التي أعادت صياغتي كليّةً من جديد: باريس حال وصولي إليها شعرت أنيأنسجم معها كما لو كنت قد عشت فيها منذ ولادتي.”[3]

ونعتقد أن هذا التصريح المبكر ناجم عما أسلفناه من صفات الشخصية عمران وإلاّ لما كان الروائيّ أسماه “عمران” متقصّداً التسمية الرمزية لمستقبل متخيّل ناجم بالضرورة عن التقاء الشخصيتين ورؤيتهما للعالم في شكل من أشكال الرومانتيكية الثورية الفائضة بالمشاعر والطموحات والأحلام، وبالتالي لا يمكن مقارنة “نجاة” بأية شخصية نسائية أخرى ارتبط بها باعتبارها رمزاً يرتبط بزمكان شديد الخصوصية كارتباطه مثلاً بابنة سوسلوف فاتن التي لقّبها بـ “هاوية”، وكانت مشاعره تميل نحوها، وربّما تعبّر المقارنة التالية عمّا يكنّه لنجاة، فهي وفق وصفه لها: ” الصدق والتفانيوالإخلاص.. في منظومتها غرائز جينيّة ناهيك عن أن نجاة تتقاسم معي عشق الثورات والحلم بعالَمٍ جديد، بنفس الغرام الصوفيّ العارم الساذج..”[4]

وطالما توقّفنا عند العشق، فلابدّ من التوقّف بمحطّتي عدن/ باريس حيث إننا نعتقد أن الحبيبة “نجاة” اليمنية الفرنسية ترمز إليهما معاً، أو بمعنى آخر، إلى عدن المشتهاة في صورتها المدنية المتحضّرة، مما دفع بعمران المتأهّب للتغير إلى الاستجابة لفكرة التعايش مع المجتمع الفرنسي، وذلك من خلال التواصل مع رموزه الإبداعية والثقافية ومع الحريّة والرقي الإنساني، وهذا المجتزأ قد يعبّر عن رغباته المتسارعة: “بقدر شدّة اندماجي بباريس، ازداد استيطان عدن لي، كلُّ منظرٍ أو حدثٍأعيشه في باريس يذكِّرني بحدثٍ أو منظرٍ مخالفٍ أو معاكسٍ في عدن؛ بفراغٍ ما فيها؛ بجرحٍ ما فييوميّاتها لا يندمل غالباً ثمّة تيارٌ ما يمرُّ في كلِّ لحظة بين قطبين موجب وسالب: باريس وعدن،حيناً؛ عدن وباريس ، حيناً آخر.”[5]

 

1.1 نوستالجيا الغياب

 

وبالرغم من أن المقارنة تأتي بالضرورة لصالح باريس، إلاّ أنها لم تتمكّن من انتزاع حبّه لعدن فهي الحاضنة الأولى والحليب وموطن النشأة والذكريات الباعثة على حنين رومانتيكي إلى أيام الصبا والمغامرات لتنضمّ المومس الملقّبة بـ “الدكتورة” إلى قائمة نسائه المحبوبات باعتباراتها الجسدية وبما بشبه تلك المومس التي أنسنت أنكيدو في اسطورة جلجامش، وسيغدو حيّ السيسبان مركز الشهوات التي لا تنسى، فضلاً عن حكايات وتفاصيل كثيرة أوردها الكاتب بغرض التشويق أو النيل مما يجري هناك بلغته الساخرة القائمة على إقامة المفارقات السريالية لمجتمع قبليّ شبه أمّي وقيادته الثورية الماركسية اللينية، مما بفعّل المخيلة ويدفع بالراوي للذهاب بعيداً في تفاصيل هذه الرموز، وكنّا في دراستنا السابقة لرواية “الملكة المغدورة” قد نوّهنا إلى موقف الروائيّ من مسألة الحاضنة والحليب[6]..

نعم إنها عدن المتخيّل الحكائي الذي ينبغي أن يكون: “لم يبعدني هذا العشق الجديد، العنيف جدّاً(باريس) عن عشق عدن، وتذكُّرها الدائم، والتفاعل مع أحداثها وعاداتها وتقاليدها مع كلِّيوميّاتها..”[7] ويأتي المجتزأ على شكل تصريح تمهيدي بأنه رغم غيابه يتابع كلّ ما يجري هناك عبر الإعلام والإنترنت ومواقع التواصل، وهذه المتابعة مكّنته من معاينة الثورة اليمنية 2011 والذهاب في تفاصيلها كما سنبيّن لاحقاً.

1.2 الصدمة الحضارية.

وفق هذه الحال لا يمكن وصف عمران بأنه أصيب بما اصطلح عليه بالصدمة الحضارية أو الثقافية، تلك التي يشعر المهاجر معها بالقلق مما سيلقاه من متاعب اغترابيّة في المجتمع الجديد على غرار أبطال بعض الروايات المهاجرة من مثل مصطفى سعيد في “موسم الهجرة إلى الشمال”، ونستدلّ على ذلك من سرعة اندماجه في الحياة الباريسية من خلال عودته مراراً إلى باريس كمشترك جديد اندمج فيه ” لمجرّد أني كنت أذوق بعض وجباتها لأوّل مرّةٍ في حياتي كان يداهمني أحياناً إحساسٌغريب بأنها كانت وجباتي المفضلة في حيواتٍ سابقة . أتذوَّقها بشوقٍ ولوعة، بحنين من افتقدها منذ عقود، منذ دهر..”[8] وإذا كان هذا حال الطعام فما بالنا في الثقافة الإنسانية الرفيعة التي لحظنا أنّه يتمثّلها سريعاً: “لم يكن و صولي للدراسة في باريس منعطفاً في حياتي، ولكن: كل شيءٍ فيها: جمالها، ليلها، نهارها، أنوارها، ثقافتها، تاريخها، لغتها، متاحفها ، بشرها، شوارعها، مطاعمها،مقاهيها، كنائسها، أنهارها، شواطئها، جسورها، كلّ معالمهاسرني، واندمجت فيه رويداً رويداً،بحبٍّ خالص.”[9]

ونعتقد في هذا الصدد أنّ شخصية عربية بصفات عمران العلمية والفكرية، فضلاً عن خلقه جديرة بهذا الفهم لمشترك المكان، وجديرة بأن تساهم في ترك أثرها فيه سواء كان علمياً أو إبداعياً، ولا نريد في هذا الصدد إجراء مقارنة بينه وبين مصطفى سعيد في رواية الطيّب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال” لأننا سنتركها لموضوع لاحق ، وإنما تجدر الإشارة إلى مشابهته بـ “عصيان كتبدار” الشخصية التركية في رواية أمين معلوف “موانئ الشرق”، فهو خلال إقامته في فرنسا للدراسة، انضمّ إلى المقاومة السريّة ضدّ النازية، لقناعته أن العنصرية تمثّل الوجه القبيح للعنف البشري، مما ينبغي الوقوف والنضال ضدّها بلا هوادة، بل ربّما يشبه أكثر “ليون الأفريقي” كشخصية رمزية ترتقي لتكون نموذجاً رائعاً لحوار الحضارات وتفاعلها، حيث إنّ الحسن الوزّان، وهو شخصية واقعية وتاريخية، كان رحّالة يجوب إفريقيا عندما اختطفه القراصنة وعاش في البلاط الكنسي البابوي في إيطاليا فترة من الزمن، كعالم جغرافي يسعى ما أمكنه لتجسير المعرفة ما بين الغرب والشرق، فبدلاً من الحروب المقيتة يمكن للبشرية أن تتبادل المعرفة والفنون والآداب، وبطبيعة الحال ليس ثمة مبالغة في صدد هذه الشخصيات نظراً لأن الأمثلة كثيرة، وتلك هي سيرورة التفاعل الحضاري الناهض على تبادل المعرفة وإغنائها باستمرار.[10]

1.3 هادم الملذّات..

يستحقّ السرد الخاص بعلاقة الغرام ما بين عمران ونجاة الثناء، ببعده الإنساني والعذوبة الفائضة بروح شاعرية عذبة تلخّص مسيرة المحبّة المتبادلة، غير أن القدر سيضرب ضربته المؤلمة في تفجيرات 1995 الإرهابية بباريس: “كانت نجاة في المحطة عائدةً من شارع المدارس في الحيّ اللاتيني، بيدهاكيسٌ فيه بضعة كتبٍ اشترتها من مكتبة جوزيف جيبير.. وفي بطنها طفلنا الأول في شهره الخامس: بنت. احترنا في تسميتها: شهرزاد أو هيلين!”[11]

وهكذا فإن خفافيش الظلام التي طارت من مكان ما ستضرب عاصمة النور في مقتل في 25 يوليو 1995، أملاً في تبديد أنوارها، وفي طريقها عصفت بحياة هذه العائلة السعيدة فنقلتها إلى مرحلة من الألم قاسية على القلب والجدان، ومن هذه اللحظة سيفهم القارئ سبب إلحاح السارد على توجيه خطابه لملك الموت على مدار الرواية..

الإرهاب انتقام عبثي

الإرهاب الذي قتل نجاة دمّر بدوره طموحات وأحلام اليمنيين في حياة مدنية هنيّة شأنهم شأن العالم المتحضّر، ولم لا؟ كلّ شيء ممكن لولا تلك القوى التي أبت إلاّ تجرّ شعوبها إلى الوراء وفقاً لهوسها الديني، غير أن الحقيقة ستبدو جلّية في سعيها بديمومة الاستئثار بالمال والسلطة وبكلّ ما يعزز هذه الرغبات الجحيمية وشهوة الامتلاك، وبالتالي فإنه لا يهمها إن دمّرت البلاد وفني العباد فهي موجودة ولن تتزحزح قيد أنملة، وحتّى في الثورة الكبرى التي توحّد الشعب اليمني فيها ومضى ساعياً لتحقيق الحلم وجدناهم يسيرون في مقدّمتها وأوّل من دعا إلى تسليحها وبداية زمان الحرب..

 

1.4 صنعاء والثورة.. رمزية الحضور الأنثويّ.

قد يخال الناقد في تناوله لهذا القسم من الرواية الذي يبدأ بعد الوحدة اليمنية وبداية زيارات السارد عمران المتكررة أن فاتن الملقّبة بهاوية ابنة سوسلوف هي رمز هذه المدينة ولكن في نسختها المنقّبة الذاهبة في الأفكار السلفية التي بدأت تعمّ اليمن بقسميه، والدليل اسمها الجديد أمة الرحمن”، وبذلك فهي الآن شخصية جديدة كلّياً تعيش حياتها في قصور صاحب النفوذ السياسي والقبلي الكبير بعدما تزوّجت ابنه وخليفته، وقد نسيت ماضيها تماماً لولا ذلك الحبّ القديم الذي عاد إلى الضوء لذلك الفتى العدني في لقاءات دكان الأعمى.

وكانت فاتن، (ابنة سوسلوف) قد هربت من يمن الاشتراكية إلى يمن الرأسمالية إبان مرحلة الصراع الكبير الذي عاشه الشطران، وتأتي أهمية الهروب من أن فاتن ستغدو رمزاً يتصارع عليه الطرفان فضلاً عن دلالاته التي تتكاثف حول وحدة مصائر الشعب اليمني بالرغم من الاختلاف الذي كان ناشباً، بدليل أن أهل الشمال اعتبروا هروبها انتصاراً لهم، فاستحقّت الزواج من الوريث المنتظر، بينما اعتبر الجنوبيون هروبها مؤشّراً لانكسار مقبل وخيانة تستحقّ العقاب أو القتل.

ومن هنا، ستغدو شخصية محورية آسرة بالرغم من نقابها وأفكارها التي جاهد عمران في تغييرها عبر حواراتهما المطوّلة، وبالرغم من سعيه لإدانتها بفكرة الخطيئة عبر متخيّل المرأة والثمرة المحرمة استجابة لشيطان الشهوات، إلاّ أنها كانت واثقة من نفسها ثقة عالية، وربّما، برأينا، لإدراكها أن هذه الذكورة المضنّاة بجهلها وبعنفها البالغ منذ بدء الخليقة، بأفكار المثقفين الرومانتيكية والشعارات البرّاقة كافة، لن تستطيع قيادة ثورة بهذا الحجم وهذا الزخم لأن فيروس خرابها كامن فيها، فعملت صادقة على قيادة الثورة إلى حيث ينبغي أن تكون، حتّى ولو كانت وأخواتها الثائرات منقّبات وخاضعات للشرط الذكوري برفع بعض الشعارات.

على كلّ حال هذا تحليلنا لهذه الشخصية المركّبة التي توازي “نجاة” رمزياً، في بعدها الدلالي للأنوثة، وفي مسعاها الإحيائي وهي تجابه بإصرار واقعاً وتحديات كبرى تتجلّى في ذكورة مطلقة وعنف لامثيل له في شطري اليمن كليهما، بما في ذلك عنف عمران المتمثّل بتعاليه الفكري ومتخيّله الرومانتيكي لمسألة الثورة، فضلاً عن لقبي “هاوية” و “ابنة سوسلوف” اللذين لن يتطابقا وحضورها الفاعل في الانتصار للتغيير سعياً لخلاص يمني ستأتي به الأيام طالت أم قصرت.

2 الملكة المغدورة،،”

رمز للأنوثة المنكسرة

بالنسبة لرواية “الملكة المغدورة” العمل الأوّل للروائي، فقد آثرنا أن تأتي في التناول بعد ابنة سوسلوف كي نؤكد ما أسلفناه حول الخزّان الرمزي الذي يذهب في النضوب بالنسبة للروائي المهاجر مع مرور الزمن، ومن هنا فإننا في هذه الرواية سنلتمس مدى كثافة حضور الحاضنة عدن في ذاكرة السارد، حيث تميل الكفّة لصالح عدن والذكريات، بينما ستميل الكفّة لصالح باريس أو غيرها من المدن الفرنسية بعد مضيّ السنين على وجوده فيها كما في رواية ابنة سوسلوف و رواية حفيد سندباد اللاحقة.

عاينت،،

هذه الرواية إشكالية الاغتراب الإنساني في عدن وذلك من خلال ثلاثة محاور دلالية:

*عدن، الحاضنة الأمومية الكبرى.

*الأم، أم ناجي بطل الرواية.

* ابتهال” صديقة ناجي.

وسوف تتماهى هذه الرموز الثلاثة في رمز كلّي هو “ملكة الشطرنج” التي بُقِرت أحشاؤها بفعلٍ ذكوري على حدّ تعبير الروائيّ.

 

2.1 صراع الأجيال والأيديولوجيات.

 

“الملكة الأم” تنام الآن في غيبوبة بالغرفة رقم 248 بمستشفى “هوتيل ديو” بمدينة “روان” الفرنسية، بعد عملية جراحية في بطنها لاستئصال السرطان، وهذه الملكة هي أم “ناجي” الراوي الرئيس للحكاية بضمير المتكلّم، بعد ما يزيد من عقدين عن زمان اغترابه، وهذه اللحظة الزمكانية سوف تقود الكاتب الجالس في المستشفى بجانب أمّه للتداعي والتذكّر، فتبدأ أحداث الرواية مع ملكة الشطرنج الضحية الأولى لعدوان الذكورة، والتي تم اغتيالها في لحظة سابقة من زمان القصة، كإشارة دلالية على اغتيال كلّ من “ابتهال” و “عدن” بسبب الجهل والتقاليد والتنافس على السلطة وغير ذلك.

تبدأ الأحداث وكأن عاصفة من الشقاء مرّت بهذه المدينة القابعة في وجداننا الجمعي كيوتوبيا جميلة، ومعها يبدأ الراوي “ناجي” في تفتيت هذه الصورة بما سيقدمه من وقائع وأحداث غرائبية ستذكّرنا بلحظات صراعية موغلة في القدم، وربّما منذ زمان بناء المدائن الأولى وبدء الصراع بينها وبين الرعاة، حيث تأخذ المدينة على عاتقها مهمة نقل الحضارة إلى الرعاة، فيما سيتعهد الرعاة بمهاجمة هذه المدن وتدميرها كلّما سنحت لهم الفرصة، وهو صراع دموي اتّخذ أشكالاً عدة، ولكنه أبداً لم يتخلّ عن المبدأ الجهنمي الناص على إلغاء الآخر بدعوى ترتيب البيت. وسيتولى ترتيب البيت هذه المرة (الرعاة الماركسيون) بكلّ ما في التعبير من تناقض ذي دلالة بين سموّ الفكرة وقسوة الممارسة على حدّ تعبير الكاتب، وبالتالي ستكون “عدن” أضحية نموذجية لهذا التضاد، وإمعاناً في التغريب سيستحيل اسمها إلى “حشوان غراد” على غرار “لينين غراد”، وستكون شخصية “حشوان” النموذج الأمثل لهؤلاء “الرعاة” الذين قدموا من الجبال، ليتحكموا في مصائر المدينة من خلال بضع جمل ماركسية مستهلكة، لا يفقهون معظمها، ولكنها على اعتبار تمنحهم السلطة فلا بأس في حفظها وتكرارها في كلّ حوار.

وبالإضافة إلى هذا الصراع النابع من أعماق التاريخ، فإن الرواية ستذهب بنا نحو المجتمع العدني ذاته، والذي مازال يعيش هذه اللحظة عبر هيمنة الذكورة ووأد الأنوثة، وهذا ما سنلتمسه في مطلع الرواية عندما يصرّح الراوي “ناجي” بأن العدوان الذي تمّ على “ملكة الشطرنج” إنما تمّ بفعل ذكوري: “كان القاتل رجلاً لا ترقّ له قناة أمام دموعي”، وتنكير لفظة “رجل” هنا تعني العموم، أو الذكورة السلطوية المستفزة والعائدة إلى همجيتها كنتيجة طبيعية للجهل الناشب، وعدم القدرة على الانسجام مع منطق الحياة الجديدة الذي بدأ يتجلى لدى الأجيال الطالعة، ليتصارع الزمانان عبر الشخصيات التي تمثّل كلّ منها رمزاً معيناً: السلطة الأبوية المتمثلة بوالد ناجي، والد ابتهال، وحشوان، والتي تسعى للحفاظ على زمانها للأبد، بكلّ ما تملكه من نفوذ وقوّة، بل وإحاطة “وعيها” هذا بهالة قدسية لا ينبغي المساس بها. أما جيل الأبناء الذي تعلّم واستفاد من الثقافة الجديدة بوعي مفارق، كـ”ناجي وعدنان وابتهال وغيرهم، فإنهم انحشروا في صراع كانوا فيه الطرف الأضعف، ولكنهم على الرغم من ذلك كانوا يتطلّعون باستمرار نحو لحظة يعيدون فيها الأشياء إلى طبيعتها، ولكنهم في النهاية سيستلمون لأقدارهم أمام هذه القوّة العاتية، فيهاجر ناجي هارباً إلى فرنسا، ويتعرّض عدنان للاغتيال، أما “ابتهال” الملكة الحلم، فإنها سوف تتلاعب بها الأقدار ما بين جنوب البلاد وشمالها، وستكون أضحية نموذجية لسلطة الأعراف والتقاليد والهيمنة الذكورية المطلقة، فتنتحر احتجاجاً على سلطة الأبوة، وانسداد دروب الحرية دونها.

 

2.2 أثر المكان،، تمثّل الوعي

 

في هذا النصّ الاستعادي يبدأ “ناجي” راوي الحكاية في تقديم وجهة نظره وفق ما اصابه في مهجره من تطوّر فكري مكّنه من نقد الأيديولوجيا السائد وكلّ ما هو سلبي في حياة المدينة التي يحبّ، ونسبه للسلطة السياسية أو لسلطة المجتمع التي ظلّت حاضرة بقوّة على الرغم من شعارات التحرر والتقدّم، نظراُ لأن هذا الوعي تنامى بعد ما يقارب من ربع قرن من مغادرة الكاتب لمكان الأحداث، وتشبّعه بالثقافة الليبرالية الغربية، والتي بدورها سوف تؤسّس لخلفية خطابه الساعي إلى نقد السائد في “عدن”، وتبيان نواتجه على مختلف الصعد، وبالتالي فإن اعتماد أسلوب السرد الخطّي على الطريقة الكلاسيكية، لن يكون في صالح اللحظة النقدية المفترض إيصالها، ولذلك فإن صيغ الخطاب ستتجه نحو تقديم مشاهد منتقاة بعناية من الذاكرة، تتخللها مجموعة من التداعيات الاستطرادية للشخصية الرئيسة وراوي الرواية بضمير المتكلّم “ناجي”، وهذا يعني بالضرورة غياب الترتيب الزمني لجملة الحكايات التي سيرويها لقارئه، حيث إن السارد يمعن في الذهاب إلى الماضي القريب لشخصياته أو الماضي البعيد لعدن واليمن عموماً، ثمّ ما يلبث أن يعود إلى حاضر زمان القصّ في مدينة روان الفرنسية، فيغدو لزاماً على القارئ ربط هذه الأزمنة والتواريخ المفصلية في حياة “عدن”، للكشف عن الدلالات المراد إيصالها.

تعبّر الرواية عن مدى انسجام ناجي بالحضارة الغربية، والناقم على ما آلت إليه أوضاع عدن. ولقد تمكّن وبمهارة كبيرة من الاشتغال على التاريخ اليمني وأساطيره وحكاياته وعاداته وتقاليده، وتوظيفها في مسروده، فضلاً عن اهتمامه بتوظيف العلوم الحديثة كعلوم الجبر والهندسة والكمبيوتر على نحو بديع وفي أمكنة عديدة من المتن، ولعلّ أطرفها هو عنوان رسالته لابتهال (أحبك حتى ظل بي على 2)، أي إلى ما لا نهاية. وبطبيعة الحال، لن يغيب بودلير ورامبو بـ”مركبه السكران”، وسيلقي أدونيس مقطعاً له أمام العاشقين الصغيرين.

3 حفيد سندباد،،

نموذج للمثقف المتفاعل حضارياً.

 

3.1 الاستهلال وفاعلية المصادفة

تأتي رواية “حفيد سندباد” لتعبّر عن وعي إنساني كوني توصّل إليه الروائيّ عبر تراكم المعرفة والثقافة الشخصية التي يمتاز بها فضلاً عن الحساسية الإبداعية وتمثّله للقيم الحضارية التي تعززت عبر الحراك الثقافي الإنساني في الحاضرة المشعّة باريس، ولكونه مبدعاً عاصر واختبرً الانتقالات النوعية أو ما يمكن تسميتها بالثورات العلمبة التي أصابت عالمنا، وهو الأكاديمي والعالم لمختصّ في علوم الكمبيوتر بما يذكّر بموسوعيي العصر الذهبي الذين تعددت مجالات اهتمامهم علمياً ومعرفياً وإبداعياً.

سيتجلّى هذا الوعي في قراءة الواقع المعاش واستشراف مستقبل العالم المحفوف بمخاطر كبرى، وهذا يعني بالضرورة اهتمام الرواية العربية بما يقلق البشرية حول مصير العالم الذاهب إلى الأمام هارباً من مشكلاته بعدما عجز عن حلّها، وإن عنى هذا الاهتمام بشيء فإنما يعني أيضاً مساهمة الرواية العربية في كتابة النصّ الإنساني في سفر الرواية الخالد

ونحن لن نذهب بعيداً في الاستنتاج فبل الشروع في عرض الفكرة العامة للرواية التي بدأت أحداثها في العام 2027 أي بعد ما يزيد عن عقد من كتابتها، وسيروي هذه الأحداث الشخصية المحورية علوان الجاوي العدني اليمني، الذي سنتعرّف إليه كبروفيسور جامعي يشرف على أبحاث الدكتوراه في المختبر العلمي بجامعة باريس 6، إلى جانب علماء كبار من مثل العالم الروسي ديمتري بابكين الذي حلّ مسائل معقّدة في الرياضيات، والفرنسي دومينيك بيرستل رئيس المختبر.

نلتمس علوان جالساً في المقهى مستعرضاً أحداث عام 2027 على شكل ومضات مشهدية، الأزمة المالية التي تعصف بأوربا، والأجواء الكارثية التي سببها تسونامي عملاق ضرب جنوب شرق آسيا، وأعاصير استثنائية في الهند فضلاً عن ظاهرة اللجوء البيئي التي استجدت، وعودة الإرهاب في شكل منظّم جديد وأكثر عنفاً، وكلّ هذا التأثيث لتهيئة القارئ وإقحامه في مشكلات ذلك الزمان القادم بمشكلاته وفتوحاته العلمية في مجال قورة التكنولوجيا والمعلوماتية والذكاء الاصطناعي وعيرها مما استجدّ، وبينما هو في تأمّلاته هذه يكتشف وجود كمبيوتر ماكنتوش مرميّ في الزبالة بالقرب من ساحة المقهى الذي اعتاد الجلوس فيه.

هذه المصادفة ستثير بطبيعة الحا استاذ علوم الكمبيوتر الذي يستعد للتقاعد بعد شهر من الآن، لتبدأ أحداث الرواية الفعلية مع هذه المصادفة التي ستليها مصادفات ومفاجآت في رحلات سندبادية تذهب في الماضي وتعاين الحاضر برؤية العالم الأديب، عبر محاور عديدة مترابطة ومتشابكة فضّلنا تفكيكها ومعاينتها وفق ما يأتي:

3.1.1 الروبوتات المؤنسنة.

بهلول روبوت مؤنسن متقدّم يمكن اعتباره شخصية أساسية، اشتراه علوان بعدما نصحه الطبيب كي يسهر على صحّة صاحبه من خلال تقنية الكترونية متطوّرة، وعلى حدّ تعبيره “لشفط كل الأرقام التي تمسّ حالتي الصحية، عبر الواي فاي والبلوتوث، ومن ساعة آبل في معصمي؛ ومن جهازٍ إلكترونيٍّ صغيرٍ ملتصقٍ بقاع الرئتين، بين حويصلاتي الهوائية، لتحسين مدِّها للدماغ بالأوكسجين؛ ومن جهازٍ آخر محشورٍ في علياء قلبي لضبط ارتفاع ضغط الدم…”[12] وإلى ذلك كروبوت مؤنسن فإنّ بهلول يقلق على تأخّر علوان ويحتضنه عند قدومه، وفيما يبدو أن هذا الروبوت كان قد تطوّر كما يتطوّر الكائن البشري خلال 12 عاماً التي أمضاها برفقة البروفيسور علوان فقد بات الآن يمتلك منظومة ذكاء اصطناعي متطوّرة تمتاز بخاصيّة التعلّم الذاتي، يشتري ثيابه الخاصة، ويكتب الرسائل الالكترونية ويجمع التوقيعات في الفيسبوك من جل حقوق الروبوتات المؤنسنة، وإلى ذلك يخاطب علوان كأنه صديق حميم فماذا تبقّى ليكون إنساناً؟

بلاشكّ تعكس علاقة البروفيسور علوان بالروبوت بهلول إمكانية تجاوز عزلة الكائن الاجتماعية في مدينة ما بعد الحداثة، لاسيما مع تنامي ظاهرة الرهاب من الآخرين كنتيجة لتفاقم الإرهاب وتنامي الشرور في المجتمعات المهمّشة.

3.1.2 نادر الغريب.  

وتجلب المصادفة أيضاً نادر الغريب صاحب الكمبيوتر المرمي في الزبالة، فقد كان زميلاً لعلوان في مرحلة الماجستير بجامعة باريس 6 عام 1983، مما يمنح علوان إمكانية استرجاع أيام الدراسة برفقة نادر الغريب وتقديم إضاءة للشخصية الجديدة ولتلك المرحلة وزمانها مع بدايات دخول علوم الكمبيوتر للجامعات وانتظامهما في صفّ واحد، وكان نادر كما يخبر السارد “يميل لاستخدام لغات الكمبيوتر الأكثر تعبيريةً و أرستقراطية، النابعة من علوم الرياضيات والذكاء الاصطناعي. يُطوِّعها لتصميم نصوص برمجياتٍ صلصاليةٍ شديدةِ التكثيف والتجريد، قابلةٍ لأن تُكيَّف وتُستخدم في مجالاتٍ شتّى لا يربطها ببعضها بعضاً رابطٌ غالباً. كنت أشعر بسعادةٍ خاصة و أنا أقرأها: نقيّةٌ، أنيقةٌ، شفّافةٌ رقراقة. كنتُ كمن يقرأ نصاً أدبيّاً، ملحمةً شعريّة!… صرتُ قادراً على تمييز أسلوبه الجماليّ الفريد في كتابة البرمجيات بين مليون أسلوب.”[13]

إنّ الكشف عن شخصية المغربي نادر غريب إنما هي وسيلة تقنية تضيء شخصيّة السارد علوان أيضاً وتبيّن مدى اندماجه في مهجره وذلك عبر بعض الاستطرادات السرديّة التي تنفتح على ماضي أيام الدراسة، ومن ثمّ العودة إلى الملفات لاسترجاع علاقته مع نادر وتهيئة القارئ لمزيد الإخبار الذي سيتكاثف حول ملفات الكمبيوتر التي سيغزوها علوان بدافع من الفضول لم يستطع مقاومته بالرغم من تساؤله إن كان يحقّ له أخلاقياً فتحها. لكنّ نادر الغريب اختفى بعد الماجستير، ولم يعرف علوان عنه شيئاً، فأقنع نفسه بفتح ملفاته التي ستأخذنا إلى عالم الرواية الأساسي عبر تقنية سرد شهرزادية تنتهج الحكاية الإطارية التي تنفتح على أطر جمّة من الاستطرادات العلمية والمتفاعلات النصّية التي بدورها تحيل إلى دلالات تفترض بالقارئ معرفتها سواء في المجال العلمي أو التاريخي والسياسي، فضلاً عن أسماء المشاهير من الأدباء والعلماء والمدن و الإمبراطوريات وما ألمّ بها بسرد شائق يعمد كسر التتابع الزمني عبر الاسترجاع ولكنها في الوقت نفسه يقدّم عالمنا المعاصر بزخم كلبر ينبئ عن كاتب جمع بين فضيلتي الأدب والعلم فضلاً عن ثقافة العصر وقضاياه الملحة.

3.2 الرحّالة “حفيد سنباد”

سندباد القار في ذاكرتنا الثقافية كرحالة ومغامر، سيترك حفيداً، ولو على سبيل المجاز، وسيتكاثف السرد حوله بعدما احتلّ واجهة الرواية ليعيد الاعتبار لأيام سلفه وكشوفاته منذ زمان “ألف ليلة وليلة” وجاذبية الأمكنة واستكشافها في العصر العبّاسي عبر المخيلة السردية، التي شقّت دروباً شتّى، وبخاصة تلك التي تأسست على حكاية أو حكايات صاغها وجدان اجتماعي وثقافة جديدة اهتمت بالسفر والاطلاع على مدن العالم واهله ونعني بهم الرحّالة الأوائل الذين سعوا إلى اكتشاف العالم بما يشبه رحلة الأنتروبولوجي الساعي إلى دراسة الأجناس البشرية وتبيّن اختلاف الثقافات والأعراق، وبذلك فإن نادر المغربي سيكتسب هذه الصفة أيضاً التي سيمنحه الروائي إياها، … لِنادر جيناتٌ سندبادية لا يمكن

إشباع شغفها.” لاسيّما وأنه كان يكتب مذكّراته بالتفصيل يوماً بيوم، وهذه تقنية إضافية استخدمها الروائي في “الملكة المغدورة” باسم أوراق عدنان[14] فالنسخة الورقية باتت هنا رقمية تبعاً للتطوّر التكنولوجي، وفي الوقت نفسه ليعزز أسلوب التشويق لمتابعة الحكاية: “غصتُ بلا وعي في هذه الغابة اللانهائية، غرقتُ فيها كما لو كنت أقرأ رواية. لم أتوقف عن عبورها طولاً وعرضاً، وعن التسكُّع في بعضها طويلاً، قبل أن تقودني ‘لى سرٍّ جوهريٍّ حميم في صميم حياتي الخاصة، أهمِّ أسرارها إطلاقاً.”[15] فما السرّ المزلزل الذي اكتشفه في ملفات نادر؟ سيحتفظ به لنفسه إمعاناً في التشويق ويمضي في تعذيب قارئه بمزيد من الإضاءة والإخبار عن “غابة” نادر الغامضة وكشوفاته فيها كعالم ورحّالة وإنسان فضلاً عن ثرائه المجهول المصدر وعلى هذا النحو يواظب في الكشف.

أسفاره،،

زار نادر نحو 47 بلداً أمضى في كل بلد منها أسابيع، على حدّ تعبير السارد، تعرّف خلالها إلى الناس والثقافات وكوّن صداقات كثيرة في الهند ومصر وعندما التقى بـ “هيلين” الشخصية الأنثوية التي ستدخل حيّز السرد، فإنهما قصدا اليمن، المكان والإطار المرجعي للروائي الذي لا بدّ من حضوره في رواياته جميعاً، ولكنّ هذه الرحلة ستأخذ شكلاً من السياحة الثقافية لمثقفَين باريسيين، وما نعنيه بالسياحة الثقافية تلك التي تعاين المكان وأهله من خلال المواقع الأثرية والمعالم المشهورة، فضلاً عما قرّ في الذاكرة عن شخصيات إبداعية أو تاريخية تواجدت في المكان أو في الموروث الحكائي من مثل البحث عن “وادي عبقر” في حضروموت، ذلك الوادي الذي عرف أيام الجاهلية بمسكن الجنّ الملهمين للشعراء، وعندما لم يجدا الوادي، اكتشفا “وادي دوعن” حيث ينتج ألعسل الدوعي الشهير.[16]

وهذه الرحلة اليمنية سوف تستغرق صفحات عدّة من السرد الذي يتقصّد الروائي من خلاله تقديم صورة بانورامية تحيي مسالك ودروب الرحّالة الأوائل عبر المحطات المشهورة، صنعاء وأوابدها وعماراتها، وعدن وحضرموت وسقطرى والمكلاّ بأسلوب يمتاز بشاعرية شفّافة، تابع خلالها مشاعر العاشقين وهما يمضيان أيامهما فيها، لينطلقا بعد ذلك إلى كمبوديا، ويمضيان شهراً إضافياً حيث دلتا الميكونج وشبكات الأنهار وحقول الأرز وما يفضي إليه المكان تداعيات قارة في الذاكرة عن الفيتناميين والخمير الخمر وبول بوت وفظاعاته التي ارتكبها بحقّ الكمبوديين فيتوقّف السارد مطوّلا عندها مستهجناً هذه الوحشية المنظّمة، لتعود به هذه المشاهدات إلى عدن أو (ج. ي. ش. د) حينها للمقارنة بين النظامين من حيث الممارسة الاستبدادية، وليستعرض أفكاره حول العنف الممارس على الإنسان منذ أقدم العهود.

إيزابيل.. وهي زوجة علوان الفرنسية وكانا يخططان للعودة إلى عدن والإقامة فيها نهائياً بعد التخرّج، وكانت بدورها تحبّ الرحلات والاستكشاف، والمغامرة، ولكنّ حياتهما الزوجية ستنتهي إلى الطلاق ومغادرة إيزابيل فرنسا نهائياً بعدما تعذّر على علوان اصطحابها إلى عدن لأسباب بيروقراطية، وبذلك سيتفرّع لحبّ جديد.

مايا كازاكوفا

شحصبة أساسية، وهي شابة روسية تحضر للدكتوراه تحت إشراف علوان، ينجذب إليها لجملة من الصفات تتوفّر فيها الجمال والعلم والثقافة، فيبدآن مرحلة سعيدة أو تسعد علوان الجاوي الذي تركته إيزبيل كتعويض مناسب، لكنها تخبره أنها متزوّجة وتلفى سرّاً عامضاً حتّى نهايات الرواية وحينها سيكتشف أنها تبنة ديمتري بابكين الذي هجرها وأمّها، وسيكشف أيضاً أنها زوجة نادر المغربي لتبدأ مضمرات الرواية بالانكشاف سواء بالنسبة للشخصيات أو بالنسبة لعلاقة البروفيسور علوان ببلد المهجر فرنسا وتجاوز هذه العلاقة نحو علاقة المثقف الكوني الجديد بالعالم، كما لاحظنا ذلك من خلال سياحته في العالم وتقديم رأيه في جملة المشكلات السياسية والحضارية التي من المفترض أن ترتقي بدلاً من هذا التراجع المخيف بسبب التنافس والسعي إلى الهيمنة على العالم بما أنتجته من معرفة وتكنولوجيا ستتحولان وفق هذا التوجّه إلى سلطة تسدّ الطريق المفضي إلى عالم المعرفة المنشود إنسانياً، حيث بمكن للإنسان أن يحلّ مشكلاته بها وليس بجعلها وسيلة للاستئثار بالمائدة. وبذلك فإن شخصيات الرواية الأساسية من مثل علوان ونادر وإيزابيل ومايا ستكون نموذجاً للمعاناة الشخصية والإنسانية في آن، فعلوان بمقدار اندماجه بمهجره إلاّ أنّ علاقته بوطنه قد انقطعت نهائياً لأن العالم لم يسهم في حلّ مشكلاته فدخل أتون صراعات وحروب خطيرة حتّى العام 2015 وفشل الثورة/ الثورات العربية وبقاء منظومة الاستبداد حاضرة لإشعال النيران في كلّ بقعة تنشد التحرر والتقدّم، وقد تعرضنا لهذا الجانب في الروايتين السابقتين.  

أمّا نادر الغريب، المغربي المولود غير الشرعي من أب مغربي وأم طبيبة فرنسية من أصول مغاربية لن يحظى باعتراف الأبوة والنسب الصلبي وسينعكس هذا على شخصيته التي سعت على مدار الرواية لتأكيد تفوّقها العلمي ليس في الماجستير فحسب، وإنما في إبداعه في مجال البرمجيات، فضلاً عن رغبته التوّاقة للانتماء إلى العالم بعدما يئس من الاعتراف وانتماء إلى المغرب، وبذلك فإنه يشبه علوان إلى حدّ ما من حيث افتقاد الوطن والانتماء إلى العالم في ببعديه الفكري والحضاري الإنساني العام على حدّ تعبير علوان:”بعكس جدِّه سندباد لا يبحث عن سرد تجارب غرائبية وارفة لإنسانٍ عجيبٍ مثيرٍ آخر. لكن عن وحدة الإنسان في هذا الحيز الضيّق من الكون: قرية الكوكب الأزرق.” وكذلك الأمر بالنسبة لمايا الطالبة الموهوبة التي لم تحظ باعتراف أبيها العالم ديمتري بابكين بالرغم من مجيئها لتحضير رسالة الدكتوراه والتقرّب من أبيها الرافض لإعادة الصلة بها وبأمّها، ومن ثمّ زواجها بنادر، السرّ الذي خبّأه علوان عن قارئه، وإنجابها ولداُ منه أسمياه “فؤاد”.

شخصيات عصفت بها عواصف مختلفة اجتثتها من جذورها فما وحدت ملاذاً آمناً سوى باريس والديار الفرنسية حيث مكّنتهم جميعاُ من الاندماج من خلال تسهيل الفرص لهم علمياً وعملياً فضلاً عما تعزز لديهم من إمكانية المساهمة في سيرورة التقدّم عبر ما استجد لديهم من علوم وإبداعات ما كان لها أن تتمّ في أوطانهم.

 

 

[1] – حبيب عبد الرب سروري ، من مواليد عدَن، ١٥ أغسطس ١٩٥٦. بروفيسور جامعي في علوم الكمبيوتر بقسم هندسة الرياضيات التطبيقية (كلية العلوم التطبيقية، روان، فرنسا)، منذ ١٩٩٢. يشرف على مشاريع فرق أبحاث جامعية مشتركة، وعلى كثيرٍ من أبحاث الدكتوراه. أعماله الروائية:

الملكة المغدورة. (رواية صدرت بالفرنسيّة). دار الأرماتان، فرنسا، ١٩٩٨، ت. د.علي محمد زيد، دار المهاجر، اليمن، ٢٠٠٢.

دملان. (ثلاثية روائية). دار الآداب، بيروت، ٢٠٠٩

– طائر الخراب. دار رياض الريس، بيروت، ٢٠١١

– عرق الآلهة. دار رياض الريس، بيروت، ٢٠٠٨

– تقرير الهدهد. دار الآداب، بيروت، ٢٠١٢ – أروى. دار الساقي، لبنان، ٢٠١٣

– ابنة سوسلوف. دار الساقي، بيروت، ٢٠١٤.

ـ حفيد السندباد، دار الساقي، بيروت، 2016

 

[2] ص 43من الرواية.

[3] ص 41 من الرواية.

[4] ص 42.

[5]

[6] كتابنا توجّهات الخطاب السردي في الرواية الإماراتية والعربية، دائرة الثقافة والإعلام، الشراقة، 2003.

[7] ص 41.

[8] ص 41.

[9] 2 41.

[10] عزت عمر، ظاهرة العنف في الخطاب الروائي العربي، كتاب مجلّة دبي الثقافية، دبي، 2014, (دراستنا عن سمرقند.)

[11] ص 48.

[12] ص 19.

[13] ص 27.

[14] ينظر دراستنا للرواية في كتابنا “توجّهات الخطاب السردي” الشارقة 2003.

[15] ص 29.

[16] ص 46.