ابن خلدون، والرقص في أمعاء الثعابين

حبيب سروري

 

لعلّ انفراط العقد بين الحوثيين وحليفهم الرئيس السابق صالح، بعد قتلِهم وتنكيلِهم به قبيل أيام، لحظةٌ تاريخية استثنائية، تتكثفُ فيها أهمُّ دروس دورات العنف السياسي العربي المتواترة، منذ قرون.

لحظةٌ تدعونا للتأمل العميق في ما حدث، واستخلاص أبرز دروسه.

 

بسبب تجمّد التاريخ العربي في زمن ما قبل الحداثة، لا يمكن غالبا استيعاب دورات العنف السياسي العربي، حتى اليوم، إلا من منظور مؤسس علم الاجتماع، ابن خلدون.

 

درَس عالِمُنا الجليل أسباب وأطوار نشوء السلطات وبقائها وسقوطها في مجتمعاتنا، من وجهة نظرِ مفهومٍ اخترعهُ ودرسهُ وبرهنَه: العصبية. أي الطاقة الجسورة العنيفة التي تحرِّك هذه الفئة الاجتماعية أو تلك، وتسمح لها بانتزاع الحكم.

 

تلي وصولها للسلطة أطوارٌ من الاستبداد والنهب والغطرسة. قبل أن تأتي مرحلةُ ترهُّلِ عصبيّتها، لا سيما عندما يرث الحكم من وُلدوا “وفي أفواههم ملاعق ذهبيّة”، ولا يمتلكون مقدرات سلفِهم على الاغتصاب والمكر والغدر و”الرقص على رؤوس الثعابين”.

تأتي بعد ذلك فئة أخرى تطيح بهم، بعصبية أشدّ وطأة، وببطشٍ لا رادع له.

 

في ضوء الصيغة الرياضية لنظرية ابن خلدون: بإمكان الفئة المنتصرة أن تكون أقل عددا، شريطة أن تكون كمية عصبيتها مضروبةً بعددها أكثرَ من كمية عصبية أعدائها مضروبةً بعددهم.

برهنت الأحداث هذه النظرية عند سقوط الموصل، قبل سنوات، بيدِ عدد ضئيلٍ من إرهابيي داعش، انتصرت على عدد هائل من الجيش العراقي، لهول كمية عصبيتها الإرهابية الهائجة. ثمّ اندحرت داعش تحت وطأة جحافل تحالفٍ دوليٍّ شاسع.

 

درس ابن خلدون وقائعَ التاريخ العربي السابق له، ويوميات واقعه الذي عاصره واندمج فيه، لا سيّما عصبية التتار وغزواتهم لديار المسلمين في القرن الثالث عشر.

قتلوا في مدينة مرو الشاهجان وحدها فقط مليون وثلث إنسان! (كانت هذه المدينة التاريخية الثقافية العريقة، التي عاش فيها عمر الخيام، عاصمة السلاجقة، قبل أن يتقدموا نحو إيران).

دمّرها التتار كلية في عام 1221. قبل مجازرهم في بغداد التي أودت بِ 800 ألف قتيل!

 

تُمثِّل حروب التتار ثالث أكثر الحروب في تاريخ البشرية عدداً في الضحايا: 40 مليونا، أي ما يعادل 278 مليونا، بالنسبة لِعدد سكان الأرض في منتصف القرن العشرين.

فيما تقع الحرب العالمية الثانية، بعدد ضحاياها ال 55 مليون، في الدرجة التاسعة فقط!

 

كان التتار يجمعون سكانَ المدينة التي يريدون تدميرها، كما يقول المتخصص في تاريخهم، ساوندرس، في أرضٍ خلاء، على تخوم المدينة.

يُكلَّفُ هناك كل جندي تتاري بقتل عدد من الناس بالفأس. بل يلزمه أن يقطع آذانهم ويضعها في كيسٍ كبرهانٍ على قتلِهم.

 

درس ابن خلدون عصبية مَلِكهم الأول جنكيز خان، وقابل شخصيا أحد أحفاده: تيمورلنك، قبل أن يخوض الأخير مجازره في دمشق.

تنقّل ابن خلدون وعاصر الحكام في أقطار كثيرة منها المغرب ومصر وسورية.

كان البحث العلمي وانتاج المعرفة هدفه الأول، وإن اقتضى ذلك علاقةً ما بهذا الطاغية أو ذاك، لاستقصاء مدى مقدراته وعصبيته.

 

يصعب أن نجد أفضل من أدواته البحثية، وتنويرات نظريته، لاستيعاب ما حصل في اليمن: صعود وجموح وبطش الحوثيين (الذين لا يزيدون عن 2.5٪ من عدد سكان اليمن)، وقتلهم لِشريكهم “عفّاش”، واستئثارهم الكلي بحكم صنعاء لوحدهم.

 

إذ انتصرتْ عصبيتهم الإمامية الكهنوتية، تحت قيادة من يُسمّى “السيد” (أي عبد الملك الحوثي)، وأطاحت بعصبية منظومة “عفّاش” (أي الرئيس السابق صالح)، التي ترهّلت إثر نهبٍ واستبدادٍ دمّر اليمن خلال 33 عاما، ثم تزعزعت بعد ثورة 11 فبراير 2011 الشبابية، قبل أن تفقد معظم أرضيتها القبلية التي انضمّت للحوثيين مؤخرا.

 

سأتوقف فقط عند حدث انتصارهم هذا، دون التعرض لتاريخ اليمن الدامي الذي سبقه، والجراح العميقة التي يعيشها هذا البلد الطيب المنكوب الحزين.

 

لِبرهنة نظرية ابن خلدون، ليس ثمّة أفضل من مشاهدة خطاب “أبي علي الحاكم” أمام شيوخ وأعيان كل القبائل المحيطة بصنعاء، قبل يومٍ من مقتل صالح.

 

لم يكن اسمُ أبي علي الحاكم معروفا لأحد قبل 3 سنوات تقريبا. سُجِن في حرب صعدة الأولى من قِبل نظام صالح، وهرب من السجن عام 2004.

شابٌّ يقترب من الأربعين، له سحنةٌ نحيفةٌ غبراء. يبدو بسيطا رثا، بدون ابتسامة ولا تاريخ. يُقال عنه إنه كان “سارق ساعات” في فجر شبابه.

 

المثير جدا: يشبه هذا الشاب تماما علي عبدالله صالح عندما بدأ الأخير حياته السياسية، وعُرِف للملأ كمتهمٍ بقتل الرئيس المدني إبراهيم الحمدي في عام 1977، بدعم مباشر من السعودية، لِتنتصر بعد ذلك العصبيةُ القبلية (التي صار صالحُ رمزَها وقائدَها) على نواة الجمهورية المدنية التي مثّلها إبراهيم الحمدي.

 

ظهر اسم أبي علي الحاكم للملأ فجأة، كقائد عسكريٍّ للحوثيين، عندما هجموا على صنعاء، عام 2014، لينقلبوا على الرئيس الشرعي هادي، متحالفين مع عدوِّهم القديم: صالح (قاتلُ الأخ الأكبر لعبدالملك، “السيد” الأول: حسين الحوثي).

عُيّنَ الحاكم بعدها بمرتبة لواء دون أن تكون له صلة بالجيش.

 

فتح صالح حينها لمليشيات الحاكم كل معسكراته التي ملأها بالأسلحة خلال 33 عاماً، وأهدى الحوثيين زمام العاصمة، انتقاما من ثورة 11 فبراير التي حوّلته إلى رئيس “مخلوع”.

أهداها كخطوة تكتيتكية، على طريق تحقيق أحلام توريثه الحكمَ لابنه أحمد (“حمادة”، حسب التسمية الشعبية)، الذي لا يمتلك “عصبية” أبيه عندما وصل للحكم في نهاية السبعينات.

 

أبوه الذي لم يعد ثاقب النظر في تحالفاته الجديدة، بعد 33 عاما من الحكم المتغطرس، وبعد تجميع ثروة خيالية تتراوح بين 30 و 60 مليارا (حسب تقارير الأمم المتحدة):

فقدَ، كما يبدو، مرونته الماكرة في الرقص على رؤوس الثعابين. ناهيك عن أنه دفع حياته ثمن جهله لِنظرية ابن خلدون.

 

ظلّ أبو علي الحاكم بعيدا عن الضجيج بعد اقتحام صنعاء الانقلابي، لا يُسمع له خطاب، حتّى كلمته “التاريخية”، الموجودة على اليوتيوب، عشية مقتل صالح، أمام أعيان وشيوخ القبائل، التي أعتبرُها أكبر وأحدث وأدقّ برهانٍ ميداني لنظرية ابن خلدون!

 

المنظر العام للخطاب مدهش جدا في لا زمنيّته: لا يمكن لمن يشاهد مسرح الخطاب أن يرى شيئا ينتمي لعصر الحداثة. ليس هناك مكرفونا، أو سلاحاً، أو كاميرا. ثمة جدارٌ عتيقٌ في الخلف، وحشود قبليّة واقفة أو جالسة، يقف أبو علي الحاكم وسطها وهو يلقي خطابه.

كأننا تماما أمام خطابٍ يُلقى في القرن السادس، أو العاشر. لا يوجد شيءٌ واحدٌ ينتمي لعصرنا الحديث إلا رمزاً واحداً خان المشهد: ساعةٌ مرموقة في معصم الحاكم، تشبه ساعة أبوبكر البغدادي، زعيم داعش، في خطابه الشهير في الموصل.

 

مضمون الخطاب أشد إدهاشا. يحتقر الحاكمُ فيه الرئيسَ السابق بثقة وعنجهية وعصبية ساحقة. “صالح قبيلي مثلكم، والقبيلي لا يخون أصحابه”، “صالح جندي، وابن أخيه طارق جندي”، “لم يأت ماله من أمِّه”، يقول الحاكم في خطاب لا تُسمعُ خلاله كلمةٌ واحدةٌ تنتمي للقاموس الحديث. وأكثر الكلمات تكرارا في الخطاب: “قبيليّ”، بالطبع.

 

الأهم من كل ذلك هو الضمير المستتر البديهي في الخطاب: السلطة مِلكٌ إلهيٌّ “للسيد”.

“هو في الأجراف والسفوح الجبلية، لأجلكم”، كما يقول الحاكم. علاقة “السيد” مباشرة مع السماء، كما يبدو. وحكمه ربانيٌّ مطلق.

ثم “هو حنقان منكم”، يضيف الحاكم. أي: سيّدكم غضبان، يريد منكم نشاطاً وفعلاً أفضل.

 

نحن هنا في عصور عتيقة لا يُوجَّهُ فيها مثل هذا السؤال الذي لا معنى له: بأيِّ حق يمتلك هذا السيد السلطة المطلقة على البلد، ومن خوّلهُ على الناس؟

نحن هنا، في الحقيقة، أمام الضمير المستتر نفسه، في خطاب البغدادي الشهير في الموصل، عندما قال: “ولِّيتُ عليكم”.

 

ثمّ في اليوم التالي للخطاب فقط، جاءت مدرعات مليشيات الحاكم، وقبائل صنعاء معه، لِسحق صالح وجنده، بهمجيّة مؤلمة وتنكيلٍ مقيت، بالسلاح نفسه الذي سلّمهُ لهم عندما وهبهم معسكراته.

 

الدرس الخالد لما جرى: لو صرف صالح الأموال التي اشترى بها هذا السلاح، خلال ال 33 عاما، على تعليم هذه القبائل التي جاءت أفواجها لقتله، في بيته، لغيّرَ البلد، ونجى من جهنم ساعاته الأخيرة.

لكنه عمل العكس: 33 عاما من سيادة الجهل والأمية والفوضى والحروب وشراء الأزلام وقمع المعارضين واغتيالهم، وتكريه جنوب اليمن للوحدة حدّ رفض وعداءِ عددٍ هائلٍ فيه لها، وتكوينِ ثروة خيالية له ولعائلته من كبار العساكر (لم يُعلِّم أحدهم ليصير مهندسا أو طبيبا!)…

 

النتيجة: 33 عاما عجافا، تحولت اليمن بعدها إلى أكثر دول العالم تخلُّفا بامتياز. قبل أن يبيع الجمهورية لسلطة الإمامة وعصبيتها الكهنوتية الظلامية، في الأعوام الثلاثة الأخيرة.

لذلك مات عفّاش رقصاً في أمعاء الثعابين. دفع ثمنَ حفاظهِ على عقلية القبيلة وتجهيل الشعب وإبقائه في الحضيض.

جاءت القبائل لقتله بسلاحه. لو استخدم ثمنَهُ لتعليمها لنجى ونجونا معه!