أن تُهديَ بيانو لِمبتور اليدين!

حبيب سروري

 

لِجهاز القارئ الإلكتروني، مثل كِندل، مع لغة الضاد مشاكل يلزم معرفة جذورها وحلّها السريع. لاسيّما وأنه تجربةٌ جديدةٌ في القراءة لها خصائص مدهشة وإمكانيات واعدة. لم يأت للقضاء على القراءة الورقية ولكن لِيرافقها، مثل الآيفون الذي لم يأت لِيدفن الهاتف الثابت ولكن لِيتزاوج معه.

 

يزعجني عندما أرى في الرحلات الجويّة الغربية معظم الناس يحدِّقون في “كنادلهم” ولا أدري ما يقرأون. استرجع ذلك الزمان الشفّاف السحيق الذي كنت “أتلصّص” فيه على عناوين الكتب التي يقرأها ركاب الطائرات، وأطلق بيني وبيني نظريات حول العلاقة بين شخصياتهم، أشكالهم، والكتب التي يقرأونها. لكن أكثر ما يؤلمني حقّاً هو أني أجد الناس في الرحلات الجويّة الغربية تحملق بكنادلها طوال الرحلة، فيما لا أرى قارئاً إلكترونيا واحداً بيد مواطنٍ عربي في رحلةٍ جويّة عربية!

سيقول هنا أحدنا إن السبب: خلو كندل من لوحة المفاتيح بالعربية، وعدم امتلاك جهازها كتباً عربية للبيع، و”ذلك لإضعاف لغة القرآن من قبل الغرب”، كما قرأتُ في مدوّنةٍ عربيّة!

 

ينسى صاحب الرأي أنه يطبع نصّه على ناشرٍ إلكترونيٍّ أمريكي (كناشر ميكروسوفت أو آبل) يسمح بالنشر العربي، وفي مدوّنةٍ صنعها الغرب تسمح باستخدام العربية، وإذا فكّر بالترجمة الآلية إلى العربية فسيجد غوغل وغيره من الوسائل الغربية…

جميعها شركات رأسمالية جشعة لا تبحث إلا على الربح وتراكم المليارات. وعندما تصنع لك ناشراً إلكترونياً بالعربية، فليس لإعلاء لغة القرآن، ولكن لأنها ستبيع لك هذا الناشر وتكسب مقابل ذلك.

وعندما لا تضع خدمة بيعِ كتبٍ بالعربية، فلأنها تعرف أن ذلك غير مربحٍ لها في بلدانٍ تجتاحها الأميّة، لا يشتري سكّانها الكتاب الورقي إلا فيما ندر، فكيف بالكتاب الإلكتروني، وبواسطة بطاقة بنكيّة لا يمتلكها أحدٌ هناك غالباً؟

 

الأهم: لا يمكن لأي قارئ إلكتروني تطوير خدمةٍ للغةٍ لا تمتلك “قارئاً ضوئياً” O.C.R يحوّل النص الورقي إلى نصٍّ رقمي. والعربية هي اللغة الوحيدة من اللغات المهمّة التي لا تمتلك ذلك.

 

لأُذكِّرْ: القارئ الضوئي برنامجٌ يسمح عند عمل سكانير لصفحة كتابٍ ورقيّ بتحويل الصفحة إلى نصٍّ رقميٍّ، كما لو كان قد طُبِعَ بناشرٍ إلكترونيٍّ مثل “وورد”، وليس إلى مجرد صورة، على غرار صورِ ال PDF.

لا مجال للمقارنة بين النص الرقمي وصورته: الأول يمكن التعامل معه ومعالجته من قبل الكمبيوتر: معرفةُ كلماته، ترجمتُها، نطقُها من قبله، تكبيرُ حجمها… فيما صورة النص بسكانير يخلو من O.C.R، في أعين الكمبيوتر، ليست أكثر من مجرّد شخاطيط، لا تختلف عن لوحة الجوكاندا في عين فار.

 

معظم الكتب التي يعرضها القارئ الإلكتروني تمّ تحويلها، بفضل القارئ الضوئي، من كتب ورقية إلى نصوصٍ رقمية كما لو طُبِعت بناشرٍ إلكتروني. ومعظمها كتبٌ ظهرت قبل الكمبيوتر.

بطبيعة الحال، يمكن إقحام كتابٍ عربيٍّ بصورة ال PDF في الكندل مثلاً، لكن لن تكون له خصائص كتب النصوص الرقميّة التي يعرضها القارئ الإلكتروني.

 

كلما أتذكّر (أي معظم الوقت) عدم امتلاك لغتنا لِهذا القارئ الضوئي الذي لم أتوقّف، منذ عشر سنوات، عن التلويح والصراخ بأهميته المفصلية اللازمة لدخول العربية العصر الرقمي، أتذكّر أحد الأغنياء العرب الذي قدّم لعارضة أزياء سويدية شهيرة عرضاً رفَضتهُ بمليون دولار لتتناول العشاء معه فقط!

كان بإمكانه أن يدخل التاريخ لو قدّم هذا المبلغ لفريقٍ هندسيٍّ عربي، يرافقهم باحثَين أو ثلاثة، لتصميم هذا القارئ الضوئي الغائب!

 

لا يمكن أن يكون المرء غيوراً على لغة الضاد وهو يرى هذا النقص المهين لها، والذي لم تعمل على ردمهِ مؤسسةٌ مدنيّة أو دينيّة أو دولةٌ أو إنسان، رغم تبذير الملايين في مشاريع تافهة، أو دون أهميةٍ بهذا الحجم.

لن تتأخر شركات القارئ الإلكتروني، وغيرها ممن لا يهمها إلا الربح، ثانيةً واحدةً بالطبع عن إضافة العربية لخدماتها إذا ما وُجِدَ قارئٌ ضوئيٌّ لها. لكن إدخال العربية كخدمة، في ضوء غيابه، أشبه بإهداء جهاز بيانو لكسيحٍ مبتور اليدين!

 

في بلدان اللغات المهمّة والشعوب الناهضة، ثمّة روبوتات تحوّلُ ليل نهار، منذ عقود، كل الكتب والمجلات والصحف والمطبوعات الورقية، لاسيّما التي ظهرت طوال القرون التي سبقت الكمبيوتر، إلى نصوصٍ رقمية.

ومنذ عقود لم تتوقف المشاريع البحثية على دراسة هذه النصوص لألف غرضٍ وغرض: تهمُّ علماء اللغة لتأليف وتطوير معاجم تاريخ مفردات اللغة. ولِلتعرّف الآلي على هذا الكاتب أو ذاك من خصائص مفرداتهِ وأسلوبه، وتحديدِ النصوص المشكوكِ من كتابتها…

وتهمُّ المؤرخين وعلماء الاجتماع لدراسة ظواهر تاريخية واجتماعية ومعرفية متنوِّعة في حياة شعوبهم، بعضها شديدة الجوهرية، عبر تحليل آلي إحصائي لمختلف النصوص المكتوبة قبيل الظواهر وأثناءها.

 

كم نحتاج لهذا القارئ الضوئي للغة العربية سريعاً لدمجها في العصر الرقمي، وعالَم القارئ الإلكتروني. إذ بفضل خصائص هذا القارئ، يتحوّل المرء غير قادرٍ عن الابتعاد عنه، كما هو مع الآيفون. يكفي أن يتسكّع في غابة كتب أمازون، غوغل بوكس، جارليكا: المكتبة الفرنسية الرقمية، وموقع منجم مناجم الإنترنت: Internet Archives، ليجد كتاباً مجانياً يشتهيه قبل النوم، بين ملايين الكتب الكلاسيكية المجانية، وليشحنه للقراءة في جهازه…

 

اعترف مع ذلك: لم أشتر كتاباً جديداً لكاتب معاصر على الكندل إلا مرّتين! ربما لأني ما زلت أعتقد خطأً أن الكتاب لن يكون مِلكي إلا إذا ما كان بين يديّ لحماً وشحماً، أي: غلافاً وورق. لعلّي ما زلتُ بعقليّة مواطن المجتمعِ “الاستهلاكي”، وليس مواطن المجتمع “الاتصّالي”.

صحيح أنه حدث ذات مرّة أن أمازون سحبت من مكتبتها كتاباً وُجِد فيه خطأٌ مطبعي، واعتذرَتْ برسالة إيميل لمن اشتروا الكتاب! وجد هؤلاء أجهزتهم الإلكترونية بدونهِ بين عشيّة وضحاها، بدون إذن، وإيميلاً يقول لهم إن ثمّة خطأً سيُصحَّح، وستُبعثُ لهم نسخةً جديدة!

 

في البدء، صدمني أن يختفي من جهاز إنسانٍ كتابٌ اشتراه. ثمّ تساءلتُ: كم عدد الكتب الورقية المترعة بالأخطاء المطبعية أو المعرفية أو التنقيطية التي بودّي أن أستعيد ثمنها بعد قراءة صفحتها الأولى، أو أن أرميها إلى سلّة المهملات؟!

 

بطبيعة الحال، في حال وجود خطأٍ في الكتاب الورقي، يلزم على دار نشره أن تعيد طباعته كليّةً لتصحيح الخطأ، بينما تكفي دقيقة واحدة لتصحيح الخطأ في الكتاب الإلكتروني، وذلك بتصحيح النص الرقمي في ناشرٍ إلكتروني، ثمّ إعادةُ إرسالِهِ إلكترونيا بالطبعة الجديدة لكل من اشتراه.

ذلك ممكنٌ جدّاً بفضل عبقرية النصّ الرقمي، أعظمِ اكتشاف للإنسان منذ فجر التاريخ!

 

ختاماً أقول: عدم امتلاك العربية لقارئٍ ضوئيٍ يعوق، فيما يعوق، دخولها عصر القارئ الإلكتروني، ويُعتَبر ثاني أهمّ أمراضِها الكبرى في العصر الرقمي، بعد المرضِ المستديم الأوّل: غيابها في عالم المعرفة حيث لا تُستخدم اليوم لكتابة العلوم والمعارف الجديدة، لا تُدرَّسُ بها العلومُ، تُعاني من أنيميا قاتلة في مجال الترجمة عموماً، والمعرفية على وجهِ الخصوص، وتخلو من مصطلحات وصيغ المعارف الحديثة لدرجةٍ تركت البعض يقول إنها لغةُ الدِّين فقط!