ألمُنا آتٍ من بُعدٍ قصيّ

حبيب سروري

 

ينهال على فرنسا اليوم تسونامي دراسات حول العنف والإرهاب، إثر سلسلة مجازر 2015 الذي بدأ بالاعتداء الدموي على صحيفة شارلي إبدو، وانتهى بسلسلة الإبادات الجمعية في 13 نوفمبر.

لا تخلو كل المجلات الدورية الفلسفية والاجتماعية والأدبية والصحف اليومية من مقالات آراء المحللين والمفكرين والمقابلات معهم لاستيعاب ذلك، ناهيك عن عدد متصاعد من الكتب والمحاضرات.

 

ثمّة من يحاول أن يستخلص أسباب هذه الإبادات الجمعيّة عبر دراسة علمية شاملة للواقع الاقتصادي الاجتماعي للعالَم اليوم في عصر العولمة، وانعكاساته الذاتية على اتجاهات المسالك والخيارات الحياتية. يراها هجمات عدميّة مغلّفة بالبلاغة الدينية. أو: “نزعات فاشيّة تمّ أسْلَمتها”، وليست “فاشية دينية”، على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي آلان باديو في كتابه العميق المرتبط بهذه الأحداث: “ألمُنا آتٍ من بُعدٍ قصيّ”.

كذلك حال المفكّر المتخصّص بالشرق الأوسط، أوليفييه روي، الذي يعتبر هذه النزعات، لدى شباب الغرب الذي انضمّ لداعش، نابعةً من “راديكالية تمّ أسلَمتها”، وليست من الإسلام الراديكالي.

 

يختلفان في ذلك مع من يعتبر أن السبب الرئيس لسلوك هؤلاء الشباب عددٌ من الآيات القرآنية التي تحثّ على العنف، حسب رأي الفيلسوف الفرنسي الأقرب لليمين المتطرف فانكِلكروت، في حواره في صحيفة لوبوان مؤخراً، أو أدونيس ضمن مقابلةٍ في ملحق صحيفة اللوموند عن الأديان، هذا الشهر.

من وجهة نظر الأوّل كل شيءٍ آتٍ منها لأنه لا يمكن “نزع فتيلها”. وحسب الثاني “القرآن نصٌّ عنيفٌ متطرّف”.

 

كتاب باديو، لأهميته وعمقه وجديد أفكاره، يستحق التقديم هنا، لاسيّما وأن نتائج الدراسات الميكروسكوبية لسياق وبيئة وحياة الشباب الأوربي الذي سافر لتركيا، ومنها إلى داعش، تتفق مع تحليله: تأسْلُمُ هؤلاء الشباب لحقَ اختياراتهم الإرهابية الآتية من نزعاتٍ عدميّة ويأسٍ وإحباطٍ وحقد، ولم يكن سابقاً لها.

الألم الذي دفعهم لارتكاب الإبادات الجمعية “يأتي من بُعد قصيّ”، حسب تعبير فِيدْر في مسرحية راسين، الذي اختاره باديو عنواناً لِكتابه.

يحاول الفيلسوف باديو تقصّي جذور هذا الألم.

 

بمنهجٍ ماركسيٍّ شفّافٍ يبدأ بدراسة الواقع الاقتصادي والاجتماعي لعالَم اليوم، ثم يجلي أنواع انعكاسته على السلوك الذاتي، يستخلص الفيلسوف مسببات ما حدث. يرسم أوّلاً معالم الواقع كما يلي:

بنية عالَم اليوم، بعد انتصار الرأسمالية المعَولمة التي صارت قطب العالَم الأوحد، تُلخِّصها أوّلاً حقيقةٌ تفقأ العين:

10٪ من سكان الأرض يمتلكون 86٪ من ثرواتها (بينهم 1٪ يمتلكون لوحدهم حوالي نصف الثروات!). 40٪ يمتلكون 14٪ من الثروات. ونصف سكان الأرض المتبقي لا يمتلك شيئاً، بينهم ملياران “لا لزوم لوجودهم”، حسب قوى المال، لأنهم لا يستهلكون!

 

في عالَمنا اليوم: الإحداثيات الهندسيّة للأسواق المالية تكتسح كوكب الأرض. أمست الألفا والأوميجا في حياة اليوم: لا يتخذ أحدٌ قراراً ما دون أن تكون عيناه على درجة رضاها. لِرعشةٍ ما في بورصةِ شنغهاي يرتجف كلُّ العالَم.

كل المكاسب الاجتماعية لنضالات الشغيلة، بما فيها داخل الدول ذات المكاسب العمالية التاريخية كفرنسا، تتساقط، تذوي، وتُلغَى الأول بعد الآخر. الكلمات العدائية ك “الخصخصة” تحوّلت عاديّةً في قاموس اليوم. تَوحُّدُ القوى المالية وشراءُ الأقوى للأضعف خلق شركات عملاقةً أثرى من دُول، نفوذها: الكرة الأرضية، بدون حدود. ناهيك عن أنّها لا تنتمي في الحقيقة لدولةٍ معيّنة (شركة توتال الفرنسية لا تدفع ضرائبها لفرنسا منذ سنين!).

الأرعب: تحاول هذه المنظومة بنجاح فرض نفسها كقطبٍ واحدٍ أوحد للبشرية، لتكون: “نهاية التاريخ”.

 

تحوّلت الدول اليوم إلى مجرد إدارات محليّة لاختيارات منظومة العولمة المالية. البنوك الكبرى صارت أقوى من سلطات الدول. ضعفت الأخيرة كثيراً، كما توقّع ماركس كل ذلك.

 

بدأت الدول الغربية بممارسة التدخل العسكري في الدول البعيدة “لحماية مصالح الغرب”، حسب شعارٍ وقح، وليس مصالح الدول المعنيّة.

لضمان هذه الحماية، برزت مؤخراً فكرة تفتيت وتفكيك بعض الدول، لا سيّما دول الموارد الهامّة. لا تحتمل قوى المال أن تكون هناك سلطة محليّة لها خيارات، وقادرة على تأخير تنفيذ قرارات قوى المال.

لتحقيق ذلك، يكفي أن تتمزق هذه الدول إلى أشباه دول، أو مناطق عصابات فاعلة تضمن بسهولة تحقيق مصالح الشركات المالية، كما حدث في يوغسلافيا، ويحدث في الشرق الأوسط.

 

ما هي إنعكاسات هذا الوضع الاقتصادي الاجتماعي على السلوك الجمعي؟

يصنفها الفيلسوف في ثلاثة أشكالٍ سلوكيّة رئيسة: 1) الذاتية الغربية، 2) ذاتية الرغبة الغربية 3) الذاتية العدمية.

السلوكية الأولى تكثِّف سلوك الطبقة المتوسطة الغربية التي تركت لها الأوليغارشية فتات 14٪ من الثروات: خوفٌ دائم من تحوّله إلى 12٪ مثلاً، بسبب نفاذ مقدرة الأوليغارشية على ضمان مواصلته، بفعل الحروب والأزمات الاقتصادية.

غطرسةٌ أيضاً في الوقت نفسه، يلخِّصها شعار: “الحفاظ على أسلوب الحياة الغربية”، ويترجمها العداء للعمال الأجانب والهجرة، واضمحلال الصراع السياسي بين اليسار واليمين واستبداله بصراع هويات!

 

السلوكيّة الثانية: ترى يوميّاً، بكل الوسائل الإعلامية والتكنولوجية الحديثة، أسلوب حياة الشريحة الأولى، تغبطه وتحسده، وتتمناه عبثاً. تعاني من إحباط وغيض واستنكار ورغبات مكبوتة.

 

السلوكيّة الثالثة: رغباتها المقموعة العنيفة بحياةٍ شبيهةٍ بحياة الشريحة الأولى تتحوّل، كما هو الحال في علم النفس، إلى رغبات انتقامية تخريبية فاشية.

لعل هذه الشريحة نفسها كانت ستنخرط، في عقودٍ سابقة، ضمن كتائب حمراء ثورية أيديولوجية مسلّحةٍ متطرِّفة. لكنها اليوم، بعد تلاشي تلك الكتائب، تغلِّف سلوكها ببلاغة الإسلام، كما غلّفت الفاشية في عهد فارنكو خطابها بالكاثوليكية.

الدراسات الميكروسكوبية لأصول وبيئة من ذهبوا للانضمام لداعش تؤكد ذلك. داعش اليوم منظومة مافوية تبيع البترول والقطن، يستلم مرتزقتها رواتب وامتيازات على غرار المافيا، يؤطرون شباباً عدميّاً غُسِلت أدمغته بتمجيد روح التضحية الإجرامية البطولية، والحقد والكراهية والقتل الرخيص، ويتم استقطابه من الشرائح العدميّة بدوافع عدّة!

 

ينتقد الفيلسوف في كتابه مجازر الغطرسة الغربية التي تقتل طائراتها بدون طيّار 19 بريئاً بجانب كلِّ إرهابيٍّ واحد تغتاله، والتي ترفع شعار “صفر قتيل” (بدون قتيل) عند خوض معاركها، وهي تعني: “صفر قتيلٍ غربي”.

 

كخلاصةٍ أقول: لا شك أن الظلامية الدينية والقراءة الحرفية للكتب الدينية أنجبت العنف الديني، في كلِّ الأديان وعبر العصور، وإن لا يحصرهما فانكلكروت وأدونيس إلا في الإسلام فقط (الذي أضرّنا فعلاً تأخّر فصله عن السياسة).

ثم هو عنفٌ ينضاف لمنظومة عنفٍ أشمل، يقع في مركزه: عنفُ العولمة، وعنفُ الطغاة العرب، لا يتحدث المفكرّان عنهما.

غير أن اعتبار بعض الآيات القرآنية سبباً مباشراً وحيداً لِمجازر فرنسا قاصرٌ ضيّق، لا يتوافق مع الدراسات التحليلة لسيرات وظروف حياة جهاديي الغرب.

 

جذر الشرّ يأتي من بُعدٍ أكثر غوراً أجلاهُ باديو، وإن اقتصرت دراسته على محاولة استيعاب المجازر التي حدثت في فرنسا، دون التطرّق لِدوافع التحاق شباب الشرق بداعش، ولِدور الطغاة العرب في صنع مليشياته.