آخر أخبار توم (الماركسية) وجيري (الرأسمالية)

حبيب سروري

 

للنظام الرأسمالي صِيغٌ متنوعة، إحداها: “الاشتراكية الديمقراطية”، حيث للقطاع العام والدولة والمكاسب الاجتماعية التاريخية دورٌ جوهريٌّ فعّالٌ عميق، كما هو حال الدول الإسكندنافية، أو فرنسا.

حتى وإن كان النظام الرأسمالي عموما، لاسيما في صيغته هذه، أرقى وأفضل كثيرا من كل أشكال الأنظمة السياسية المعروفة الأخرى: تيوقراطية، شوفينية، توليتارية سوفيتية (تلك التي فرضت نظاما مركزيا قمعيا ألغى الحرية ودور المجتمع المدني، بِاسم: “الشيوعيةِ” التي تم تشويهها في الصميم)… إلا أنه يحمل في جيناته “خطيئته الأصلية”:

 

يسهل في الحقيقة هجاء الرأسمالية بجدارة واستحقاق: نظامٌ يقوده البحث الأناني الدائم عن أقصى الربح، يكبح جماح ازدهار الآخرِ، والإنسانية ككلٍّ واحد. يزيد باضطراد من حجم اللامساواة الفاحش بين أرباب العمل والآخرين.

أركان دينه: الحث على الاستهلاك والتسليع، والإنتاج التنموي المضطرد الذي يمكِنه أن يخرِّبَ بيئة كوكب الأرض. ناهيك عن ميل الرأسمالية للتسلّح التدميري العنيف، وغريزتها الإمبريالية الأصيلة…

 

البحث عن نظامٍ بديل للرأسمالية، أكثر ديمقراطية وعدلا، يُعطي دورا قياديا للمجتمع المدني في توجيه الدولة (التي توجِّه بدورها الاقتصاد)؛ قبل الوصول إلى تحقيق الهدف البعيد الأنبل: “من كلٍّ حسب قدرتِه، ولكلٍّ حسب حاجتِه” هو ببساطة مشروع ماركس لتجاوز الرأسمالية.

 

أعدّ ماركس لذلك نظرية متكاملة، وورقة طريق. درس في نظريته طبيعة الرأسمالية، وأزماتها الجوهرية (لم تفعل الحياة غير تأكيد تنبؤاته، يوما بعد يوم)، لكنه تنبأ أيضا باشتداد الصراع الطبقي (وهذا ما لم يتحقق، بل انحسر) الذي تقوده الطبقة العاملة للإطاحة بالرأسمالية.

كان ماركس أيضاً قد راهن (ولم يفلح) على بدء اندلاع الثورات الاشتراكية في الدول الرأسمالية الديمقراطية المتقدمة، كفرنسا وبريطانيا، لارتباط مشروعه الثوري الأممي عضويا بالديمقراطية وتحرير الإنسان عموما.

 

ثمّة من قبرَ نظرية ماركس، لا سيما منذ ثمانينات القرن الماضي، وتحديدا بعد سقوط المعسكر السوفيتي (الذي لم يكن أكثر من تشويهٍ فظيعٍ لنظريته)، بحجة اضمحلال النضالات الطبقية في الدول الرأسمالية، وموت الصراع الطبقي. وتحت مبرر كون الطبيعة التنافسية للرأسمالية متغلغلة في الألياف العصبية للإنسان: “هي ما تنسجم مع طبيعته، وهي مستقبله الأبدي”، كما يقولون.

كما اُعتُبرت الماركسية، من باب السخرية: “نظرية جميلة، لكنها غير مناسبة للطبيعة الإنسانية القبيحة!”.

 

كل تلك الاعتبارات قابلة بالطبع للجدل. لكنها في الحقيقة لا تفسِّر سبب خفوت صوت الماركسية اليوم، وإن كان خفوتا مؤقتا بالضرورة، طالما تحمل الرأسمالية في جيناتها خطيئتها الأصلية.

بل لعل الماركسية توشك أن تنهض اليوم كالعنقاء، ببنيةٍ ومشاريع جديدة، كما سنتطرق له بعد قليل.

 

سبب انكماش صوت الماركسية اليوم هو أن النظام الرأسمالي، الذي تشكّل وتطوّر منذ قرون، عبقريٌّ عنيدٌ في صراعه من أجل البقاء:

نظرية ماركس تُدرَّس في كل ثانويات وجامعات الدول الرأسمالية. تكون أحيانا الموضوع الرئيس لامتحانات الفلسفة في عموم الثانويات العامة. ويعرف قادة الرأسمالية ربما تفاصيلها وسراديبها أكثر من غيرهم.

ولامتصاص غضب شغيلة شعوبها، ترفع الرأسمالية رواتبهم ومستوى معيشتهم، وتحقِّق لهم مكاسب اقتصادية وضمانات اجتماعية هامة، تضمن لها عدم لجوئهم لأي تغيير ثوري ماركسي.

 

وعندما يبلغ السيلُ الزبى، وتكتفى الشغيلة بانتخاب أحزاب يسارية للبرلمانات أو للرئاسة، لا يمنع ذلك الرأسمالية من النوم. لا سيّما وأن أهمّ تلك الأحزاب قد اعتنق، منذ الثمانينات من القرن الماضي، دين الليبرالية الجديدة، وسار على صراط العولمة، كما تشتهي الرأسمالية وتحب.

 

علاوة على كل ذلك، تستطيع الرأسمالية، دون عُقَد، أن تلجأ لِسنّ شرائع الضبط والتعديل المالي والاقتصادي، Regulation، عند اندلاع أزماتها.

وبدون عُقَدٍ أيضاً، يمكنها أن تقبل بمرونة التأميمات الاقتصادية أحيانا، وتعزيز دور الدولة بما ينسجم مع تعاليم الماركسية.

 

غير أن العلاقة بين الماركسية والرأسمالية لا تختلف كثيرا، في الجوهر، عن العلاقة غير الغرامية بين القط توم والفار جيري، في أفلام الكارتون الشهيرة.

وأزمة الرأسمالية التي اندلعت في 2008 أيقظت، كما يبدو، قط الماركسية النائم، لِتُذكِّرَه بجوعه الغريزي ورغبته الجينية: تجاوز الرأسمالية نحو نظام أكثر حرية وعدالة وإنسانية.

 

ظهرت، بُغية ذلك، مشاريعٌ، تَحدّثنا عنها في بداية مقالنا السابق: “ما بعد الإنسانية”، لمواجهة الرأسمالية في زمن العولمة، وتهديد الكوارث البيئية، وللتناغم مع تغيّر البنية الاقتصادية للعالم بفضل التطورات التكنولوجية والمعرفية الحديثة.

لعلّ أهمها كتاب: “طوباويات واقعية” (600 صفحة)، للبروفيسور الأمريكي إيريك أوناين فرايت.

 

يقدِّم الكاتب فيه، بروح ماركسية حديثة استفادت من كل تجارب الماضي، “بوصلة” للوصول يوما إلى مجتمعِ ما بعد الرأسمالية، في سيرورة تدريجية على إيقاع المقولة الشعبية الشهيرة: “أنا وأنت، والزمن طويل” (حيث أنا: الماركسية، أنت: الرأسمالية، والزمن الطويل هو الزمن اللازم لبناء مجتمع ما بعد الرأسمالية. لا سيّما وأن الرأسمالية أحتاجت لثلاثة قرون لتكون بهذه السيادة الكليّة. وستحتاج ربما لثلاثة قرون أخَر، أو أكثر، ليتم تجاوزها!).

 

لا يقدِّم الكتاب خارطة طريق، ولكنه يدرس تجارب اقتصادية واجتماعية معاصرة ذات مضمون لارأسمالي، ويفتح اتجاهات جديدة لتطوير دور المجتمع المدني في تعزيز الديمقراطية وتغيير أنظمة الحياة.

هدفه: ليس القضاء على الرأسمالية بحركة ثورية راديكالية على غرار بعض تجارب القرن العشرين، أو بإصلاحات على غرار أحزاب الاشتراكية الديمقراطية (التي انطوت اليوم في تيار الليبريالية الجديدة)، ولكن عبر:

“خلق بدائل للرأسمالية، أكثر تحريرا للإنسان، لنخر الرأسمالية من الداخل، في كل شقوقها وفضاءاتها”.

أي، حسب تعبير الكتاب: عبر تحقيق “طوباويات حقيقية” داخل الاقتصاد الرأسمالي نفسه، يتم النضال لتوسيعها وتطويرها وتعميمها، في سيرورة متعدِّدة الأساليب، طويلة الأمد.

 

لعلّ إحدى أبلغ تجارب “الطوباويات الحقيقية” التي درسها الكتاب، قد تبدو رمزية، لكنها واعدة، وشديدة التعبيرية: ويكيبيديا.

فكرة عمل موسوعة ويكيبيديا على الإنترنت فكرة لا رأسمالية بامتياز، قدّمت بديلاً أطاح بمؤسسات الموسوعات الرأسمالية التي عمرها 3 قرون: بريتانيكا، يونيفارسليس…

قدَّمت بديلا ديمقراطيا مجانيا، أمميا يستخدمه كل مواطني الكرة الأرضية بتساوٍ تام، بدون أية صفحات دعايات رأسمالية تربح منها الموسوعة، خلا تبرعات المتطوعين من الناس؛ بديلاً أفضل وأشمل وأجدى بما لا حدّ له.

يحرِّره 200 ألف مواطن ومتخصص في كل أنحاء العالم، في نظام عملٍ تعاضدي راق. مبدأهم: “من كلٍّ حسب قدرتِه، ولكلٍّ حسب حاجتِه”، قبلة مجتمع ما بعد الرأسمالية.

ناهيك عن أن مقالا علميّاً حديثاً، في مجلة Nature الراقية، برهن مؤخراً أن الأخطاء في صفحات ويكيبيديا العلمية قليلة جدا، لا تزيد عن أخطاء موسوعة بريتانيكا!

 

ثمّة اليوم مجالات عدّة لبناء مثل هذه “الطوباوية الحقيقية” التي تتغلغل في شقوق وأعطاف الرأسمالية، وتنخرها من الداخل.

 

أحد المنعطفات المفصلية التي يتأسس عليها مشروع “طوباويات حقيقية” هو: “الراتب الأدنى الكليّ” الذي بدأت تتوالى الاقتراحات والمشاريع السياسية لتحقيقه.

فمع تزايد إقصاء الناس عن العمل، وعزل شرائح اجتماعية كثيرة بسبب حلول التكنولوجيا محلّ الإنسان، يتبلور مشروع يفرض نفسه على الرأسمالية أكثر فأكثر، ويدور حوله اليوم جدلٌ كبير: توزيع هذا الراتب لكل المواطنين، موظفين أم لا، طلابا أم لا، ليضمن منع أي إنسان من الاقتراب من خط الفقر.

ثمّة تجارب جنينية لتوزيع هذا الراتب اليوم، وكان فعلاً ضمن المشروع الانتخابي لمرشح الحزب الاشتراكي الفرنسي هامون، العام الماضي.

 

يشرح فرايت تصوّرات متعدِّدة لتوزيع هذا الراتب، ولِدوره في قلب معادلة سيادة النظام الرأسمالي، لا سيّما مع اقتراب موعد منعطفٍ زمنيٍّ موازٍ آخر، يُفترضُ أن يلعب خلالهه المجتمع المدني دورا ضروريا رئيسا، لا غنى عنه، في تحقيق تغيرات جذرية في مشاريع الطاقة والتخطيط المدني للدول الرأسمالية (وفي الحياة الاقتصادية والاجتماعية عموما)، لمقاومة كارثة التغيرات البيئية التي تهدد كوكب الأرض.

 

خلاصة القول: يتناول كتاب إيريك فرايت بالتحليل تجارب سياسية واقتصادية ومدنية لا رأسمالية في دول مختلفة عدّة (المكسيك، أسبانيا، أمريكا…)، ويُقدِّم أفكارا حيّة لاستغلال خلساتٍ وفرصٍ في السنوات القادمة، لبناء وتوسيع طوباويات حقيقية جديدة، تؤدي إلى تأسيس مداميك صرحِ مجتمعٍ لا رأسمالي، أكثر عدلا وإنسانية.