Monthly Archives: مارس 2018
سفينة نوح العلم في الغلاباغوس
سفينة نوح العلم في الغلاباغوس
حبيب سروري
الغلاباغوس، تعني بالأسبانية الفصحى: “جزر السلاحف”. وتعني كما يُردَّد غالبا: “الجزر المُسكِرَة”، أو “الجزر الساحرة”.
حال الاقتراب بالسفينة منها، شعرتُ أننا سنعيش أمّ الاكتشافات والمفاجآت. ها نحن في أكثر جزر الدنيا سحرا وإدهاشا، وأهمّها في تاريخ الاكتشافات العلمية حول أصول الإنسان، وأولاد عمّه: (بقية الحيوانات)، وكل أقاربه وذويه: (بقية الكائنات الحيّة).
أرخَتْ سفينتُنا، القادمة من الإكوادور، حبالَها في أقصى جزيرةٍ غلاباغوسية: شاتام (كما كانت تُسمّى في أيام داروين. أو سان كريستوبال، كما تُسمّى اليوم)، في شرق الأرخبيل الذي يبعد أكثر من ألف كيلومتر عن الشواطئ الشرقية للإكوادور في شمال غرب أميركا الجنوبية.
كنّا كمن وصل إلى كوكب آخر، أو كمن وصل إلى كوكب الأرض قبل طوفان سفينة نوح: بيئةٌ بركانية غير اعتيادية، تضاريسها لا تُشبه تضاريس:
فوهاتٌ بركانيةٌ في انتشارٍ عجيبٍ حولنا. أشجار الصبار لها أشكال لم نرها من قبل. معظم النباتات والحيوانات نكتشفها هنا لأول مرة، وليس لها مثيل خارج الأرخبيل.
عندما تواجهُ في طريق سيارتك سلحفاة عملاقة في الغلاباغوس، وزنُها أكثر من أربعمائة كيلوجرام، تتمطّى وتتمايل وتتبختر بغنجٍ ميكروسكوبي، قبل أن تتوقف لتلتهم شجيرة صبار صغيرة نَمَت في منتصف طريق، فاقفلْ مفتاح السيارة.
ضع فيلما هنديا طويلا على شاشة السيارة أو الهاتف، يستمر بضع ساعات، بانتظار أن تبتعد السلحفاة وحدها عن وسط الطريق…
سيدهمُك هذا السؤال بالطبع: من أي كوكبٍ سقطت هذه السلاحف العملاقة؟ كيف غزت الأرخبيل؟ لماذا لا توجد سلاحف مثلها في أي مكانٍ آخر في الكرة الأرضية؟
بانتظار مغادرة السلحفاة، لاحظنا، غير بعيدٍ من موضع توقفنا الطويل: “مقبرة السلاحف” التي كتب عنها داروين في مذكراته.
ثمّة، حيثما أخد عالِمُ الأحياء الشهير معه درع سلحفاة مقعّرا فارغا، استخدمه كحوض سماد!
أشعر بالدهشة التي اعترته، يوم رسو سفينته “بيجل” هنا، في 17 سبتمبر 1835، وهو يرى هذه الكائنات العملاقة، وحاجته لأخد 50 سلحفاة منها معه لدراستها بعد العودة إلى لندن، ليكتشف حينها، بمعونة العالِم المتخصص جون جولد، أنها تنقسم إلى 15 نوعا بيولوجيا، بأشكال مختلفة: قوقعةُ ظَهرِ بعضِها مثل القبّة، وبعضِها مثل صهوة الخيل…
تتقدّمُ سيارتنا، شُهدُ وأنا، بعد انسحاب جلالة السلحفاة العملاقة من طريقنا.
الطقس لطيف ساحر على الدوام، رغم أن الأرخبيل يستلقي على خط الاستواء.
أنظر في الجو بحثا عن عصفور “الصفنج”[1] ، أو “البانسون”، كما يُلفظ اسمهُ بالفرنسية.
السبب: بعد وصول داروين إلى هذه الجزيرة النائية التي افتتحنا بها، نحن أيضاً، رحلة الأرخبيل (على غراره تماما، عندما وصل)، وبعد عبوره كل الأرخبيل، ستتأجج في ذهنه فكرةٌ صغيرة، لا سيما بعد عودة سفينتهِ بيجل (سفينة نوح العِلم) إلى بريطانيا، ودراسته لِعيّنات، اصطادها وأخذها معه، من هذه العصافير المغرِّدة الصغيرة التي لا توجد إلا في هذا الأرخبيل فقط.
صحيح أن كثيرا من علماء الحفريات والبيولوجيا، والفلاسفة قبل داروين، كانت لهم رؤياتٌ “ما قبل داروينة”، تتّفق وما برهنته النظرية.
أي: نرتبط كبشر بسائر الكائنات الحيّة بعلاقة عضوية: نأتي جميعا من جذر واحد، نتطوّر بما يتكيف مع ظروف بيئاتنا، وننتقل خلال زمن، قد يصل إلى ملايين السنين أحيانا، من نوعٍ بيولوجي إلى نوع…
ألم يقل أبو العلاء عن وُحدة الكائن الحي:
أرى الحيّ جنسا يظل يشملُ عالمي
بأنواعِهِ، لا بُوركَ النوعُ والجنسُ!
وألم يقل عن تطورات نوعنا البشري:
جائزٌ أن يكون آدمُ هذا
قبلهُ آدمٌ، على إثر آدم
لكن عطاء داروين الرئيس هو ما ذكّرتُ به شهد، هي التي تُدركُ هذه الأمور أفضل منّي:
= عطاء داروين يكمن في اكتشاف المفتاح الذي يفسِّر كل ذلك:
مبدأ “الانتخاب الطبيعي” الذي قاد لنظريته الشهيرة: “التطور والارتقاء”. اشتغل عليها حوالي 30 عاما. نشرها في عام 1859 في كتاب غيّر تاريخ العالم: “أصل الأنواع”. يعتبرُ اليوم، كما يقول كبار المتخصصين، في كتابٍ لهوبير ريف: أهمَّ كتب العلِم قاطبة. يليه كتاب نيوتن: “الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية”.
ناهيك عن أنه “ليس ثمّة أي معنىً لأي شيء في البيولوجيا، بدون أضواء نظرية داروين”، كما يقول عنوان كتاب لعالِم الجينات الروسي: ثيودوزيوس دوبزانسكي.
قبل أن استطردَ، وشُهد تصغي لاستشهاداتي، كما لو تسمعُها لأولّ مرّة:
= اندلع “الوحيُ” بمبدأ “الانتخاب الطبيعي” في دماغ الباحث الشاب، بعد عودته للندن، ورؤيةِ اختلاف أنواع عصافير البانسون التي جلبها معه من أرخبيل الغلاباغوس، وانسجام هذا الاختلاف مع بيئة كل نوع. ثمّ بحثِهِ عن تاريخ تطور كل الأنواع الحيّة، إنطلاقا من هذا المبدأ الجوهريّ الحاسم.
ها نحن نواصل تقدّمَنا في أفياء المحيط الهادئ، نتوغّل في أرخبيل غائر لم تطأه رِجلُ إنسان حتى عام 1553. صعُبَت زيارته ربما، والحياة فيه، لأن التيارات البحرية التي تفصل جزره عاتية، تعزلها عن بعض، وتعيق السفن من عبورها بسهولة.
لكل جزيرة تاريخ وبيئة جيولوجية خاصّان بها، وظروف ولادة تجعلها تختلف عن أخواتها، وتسمح فيها لحياةِ وتطورِ أنواعٍ فريدة من الحيوانات والنباتات، تتميّز عن بقية جزر الأرخبيل.
لذلك يتنوّع شكل ووظيفة منقار عصفور البانسون من جزيرةٍ لأخرى.
شُهد وأنا في ذهولٍ كليّ، ونحن نرى قبائل السلاحف العملاقة، طيور “المُحاكي” الذي يختلف من جزيرة لأخرى أيضا، وزواحف أرضية ومائية كالإغوانا الأرضية الملوّنة، والإغوانا المائية ذات الأقدام المجنّحة… وغيرها مما لا توجد كلمات في القواميس العربية لتسميتها.
سحليات طولها أكثر من متر، داكنة، بأوجه غير سعيدة.
كذلك حال الطحالب، والطيور والأشجار: أنواعٌ بيولوجية لا تنتمي لِعالَمنا.
أزواج، ضمن أسراب مزدحمة، من “أسُود البحر” منبطحة على الشواطئ. كل زوجٍ في عناق ثنائي، ودغدغات ولِعب وتمسيدٍ دائم. عشقٌ طوال اليوم.
هل جاءت سفينة نوح إلى هنا، لِتُفرِغَ نصف حمولتها، قبل أن تزور بقية الأرض وتزوِّدها بالنصف الآخر؟
وعند وصولنا لاحقا إلى جزيرة العاصمة، سانتا كروز، استمرَّ الانذهالُ، ونحن نجد أنفسنا نسبح، ذات يوم، بين طبقات من أسود البحر، بتعايشٍ سلميٍّ واحترامٍ متبادل!
نراها أيضا على رصيف محطات السفن، في قاعات وصالات المحطّات، على السلالم… تنام على الشواطئ بكميات هائلة.
ماذا نعمل في هذه الديار؟
كم نشعر أن الإنسان متطفِّلٌ عندما يتجوّل هنا، في غير محلّه، دخيلٌ على المنظومة البيئية لهذا العالَم الغلاباغوسي الذي لا يشبهه عالَم!
قلتُ لشُهد:
= تساءلَ داروين حتما، حال هبوطه في هذه البقاع النائية: هل خلق الله كل هذه الحيوانات والنباتات التي لا توجد إلا هنا، خصِّيصاً لهذا الأرخبيل فقط؟
ثم، لماذا لكل جزيرة أنواعها البيولوجية المختلفة عن الجزيرة المجاورة، بما يتلاءم مع طبيعة بيئتها؟…
ورويدا رويدا، تفجّرت في دماغه نظرية التطور والانتقاء، البديل العلمي لنظرية الخلق الدينية.
هذه النظرية الجوهرية التي حرّرت البيولوجيا من سلطة أطروحات الدين حول أصل الحياة.
= نسف داروين هكذا مفهوم وجود إله، وشجَّع على الإلحاد؟؛ تسألني شُهد.
لزم أن أردّ سريعا، لأني أرفض المغالاة في انتهاك حرمة الدين باسم العِلم، مثلما أرفض انتهاك مجال العِلم بإقحام الدين في أموره:
= لم يشجِّع داروين يوما على الإلحاد. كان نموذجيا في الالتزام بميثاق العلاقة بين العلم والدين، ويرفض أن يتحدّث كملحد أو كمتديّن.
العلم بالنسبة له يفكِّك ويقشِّر ويفسِّر أسرار الطبيعة والحياة، كما هي، وكما يُحرِّكها قانون الانتخاب الطبيعي، بمعزل عن أية مسلّمة دينية. لكنه لا يتدخل لإعطاء اتجاهٍ أو قيمةٍ أخلاقية لتلك القوانين. هذه شؤون الدين والفلسفة.
باستعارة تبسيطية: العلم يقيس مثلاً رقم درجة الحرارة. لكن لا يقول لنا هل يلزم أن نعتبر الطقس حارا أو باردا، أو هل في ذلك خير أو شر.
القيم الأخلاقية والجمالية مجال فلسفاتِ الأخلاق والدين.
ما تبقى من أسئلة: هل ذلك محض صدفة أم لا؟ هل هي إرادة إلهية أم لا، لمن يؤمن بإله؟ هل خلق الله داروين ليكتشف أصل الحياة وقانونها، وينقل بذلك علوم الحياة، والبشرية معها، من الظلمات إلى النور؟… ليست من اختصاص العلم، ولا تُهمّه. تقع جميعها ضمن اختصاص الدين والفلسفة وحدهما.
في هذا الأرخبيل، لكل شيء تقريبا اسمُ داروين. تنتقِلُ فيه من فندق اسمه داروين، عبر سيّارة عليها عبارة لداروين، نحو فندق آخر باسم داروين، بعد أن تكون قد تناولتَ الفطور في مطعم باسم داروين، داخل إحدى جزر الأرخبيل التي تحمل اسم داروين.
تماثيلُه وصورُه في كل مكان. لسنا هنا أمام ظاهرة “عبادة الفرد”، بالمعنى السياسي، ولكن أمام تقدير إنسان أفنى حياتَه للعثور على أحد أهم مفاتيح العلم والحضارة الحديثين، قبل أن يحمل ضريحَه وزراء ونبلاء بريطانيون، لينام بجانب ضريح نيوتن في دِير ويستمنستر، بقلب لندن.
اسمه يُتوِّج اليوم أهم عمارات قاعات محضارات واجتماعات الجامعات والفنادق الدولية. صوره على عملات الجنيه الاسترليني.
وثمّة أكثر من مدينة وشارع وطريقٍ في هذا العالَم، خارج الغلاباغوس، تزهو باسمه، بما في ذلك مدينة داروين باستراليا.
أما مركز شارل داروين الدولي، هنا في الغلاباغوس، فهو تحفةٌ ومختبرٌ ومنتزهٌ فريدٌ شاسع، مدعومٌ من جامعات ومراكز دولية كثيرة (استلم جائزة السلطان قابوس للحفاظ على البيئة في 1999)، وبه باحثون زائرون من كل أنحاء العالَم.
[1] Darwin’s Finch
منال، أروى، وديع، وبقية العصافير
منال، أروى، وديع، وبقية العصافير
حبيب سروري
في مقال سابق لي في “ضفّة ثالثة”: “سفينة نوح العِلم في الغلاباغوس” نقلتُ القارئ إلى أرخبيل قلّما تناولت تاريخه وأهميته صحفنا العربية، سلّط الضوء على مسائل الحفاظ على البيئة، ذات الأهمية البالغة القصوى اليوم.
أودّ هنا إكمال ذلك التقديم العام للأرخبيل، والإجابة على بعض الأسئلة التي طرحها، بالحديث عن تجربة علمية إنسانية أدبية عاطفية، عشتُها قلبا وقالبا، في مركز شارل داروين الدولي في الغلاباغوس، المدعوم من جامعات ومراكز دولية كثيرة (استلم جائزة السلطان قابوس للحفاظ على البيئة في 1999)، وبه باحثون زائرون من كل أنحاء العالم.
ناهيك عن أنه تحفةٌ ومختبرٌ ومتنزهٌ فريدٌ شاسع.
فيكتوار (انتصار، بالعربيّة) باحثة قدّمت أطروحة الدكتوراه حول “تفاعل نباتات الأرخبيل مع طيوره”، وتقضي عاما إضافيا في أبحاث جديدة في الأرخبيل. رتِّبتْ لي إجراء تلك التجربة الخالدة معها.
وصلتُ في الخامسة فجرا، إلى المركز.
غرستُ معها أعمدة شبكات، مثل شبكات كرة الطائرة، في ساحةٍ منزويةٍ خاصةٍ، تحيطها أشجار الصبار، وبِركات سلاحف عملاقة، بعيدا عن عمارات المختبرات ومتحف المركز.
تقود البهيّةُ الشغوفةُ فيكتوار هذه التجربة (تُكرِّرها أسبوعيا. أجهزة قياساتها قربها في حقائب ثلاث)، فيما لم أكن إلا مجرد مشاهِدٍ ومساعدٍ، لا غير.
فجر غلاباغوسي فضيٌّ رقيق، لا نهائي الجمال. مناظر الصخور المحيطة بالمركز، ونباتاته وأشجاره النادرة حولنا في كل مكان، والطيور الساحرة الغريبة المحلِّقة فوقنا، في علياء هذا الخلاء المنزوي الساحر، تجعلنا نتساءل إن لم نكن نُجري تجارباً في أحد مختبرات الفردوس في عليّين، وما أدراك ما عليّون…
عصافير بانسون داروين تنتشر في الفضاء في هذه الساعات المبكِّرة بكميات غفيرة. ما أسهل اصطيادها، حيّةً وبدون إشكال! يكفي أحيانا التلويحُ بقبّعة، وقليلٌ من المهارة، لاصطياد أحدها وهو يطير…
أما في ركائز شبكاتنا التي ثبّتناها (كما كان يفعل داروين وفريقه) فقد استطعنا التقاط حوالي عشرين بانسونا، بين الفجر ومنتصف الظهيرة.
بمهارة وحركة فنيّة ورِقّة غريزية، تُفكِّك فيكتوار كل خيوط الشبكة التي يتخبّط البانسون المأخوذ بتلابيبه بين مخالب أخطبوطها. يعتوره خوفٌ وهلع.
تعاملُهُ بحبٍّ وحنان، حدّ رغبة بعض العصافير العودة مجددا، بعد انتهاء التجربة، للارتماء في أحضانها: كان يبدو كما لو أن بعضهم يسقط عمدا من جديد في مطب الشبكة!
تمسيد وتمليس فيكتوار للعصفور متعةٌ ونعمةٌ يحسّ بها، كما يبدو. ينتقل بين أناملها من الخوف بعد الأسر إلى السعادة سريعا.
تضع فيكتوار قليلا من الجيلاتين حولَ وعلى منقار كل عصفور، لامتصاصِ وتحليل ما تناول من غذاء، كلٍّ حسب منقاره (بعضهم يتغذّى من الشجر والأزهار. آخرون من الدود. وبعضهم من لب الثمار بعد كسر قشراتها بمناقيرهم العريضة القوية).
تأخذ عيّنةً من البراز الذي غادره حتما في لحظة خوف، عندما وقع في المطب.
وبجهازٍ خاص، تقيسُ طولَ وعرضَ منقاره، وبعضَ مواصفات جسده (الذي يراوح طوله بين 10 و 20 سنتمترا فقط).
تحدِّد نوعه البيولوجي ضمن الأنواع الثلاثة عشر من هذا الطائر، ومدى كونه هجينا أحيانا…
تنزع بِرقّة من ساق قدمه حلقةً معدنية نحيفة كخيط، تحتوي على رقاقة إلكترونية ميكروسكوبية، مسجّلٍ عليها كل تفاصيل هويّته، ومواصفاته، وتاريخه الغذائي والصحي… تمّ تحديثُها سابقا (من قِبلِها، أو من باحثٍ آخر) عندما سقط العصفور قبل هذه المرة، في مطبات تجارب المركز، أو في مختبرٍ آخر.
ثمّ تُموِّل فيكتوار الرقاقة ببيانات جديدة من وحي تجربة اليوم.
تضع على ساقهِ حلقةً جديدة، ورقاقة تحتوي على النتائج والأرقام التي أخذتْها، إن كانت هذه مرّتهُ الأولى في متاهات الشبكة.
تطلب مني أن أعمِّدَه باسمٍ، سيكون اسمَه الرسمي دولياً، إن كانت هذه رقاقته الأولى.
اخترتُ لهم بالعربية: منال، أروى، وديع، سعدان، فريدة، علوان… ارتبطتُ بالأولى والثانية والثالث بعلاقة حميمة. أشتاقُ لهم أحيانا.
ثمّ تنتظر فيكتوار أن يقع كل عصفورٍ في الشبكة مرّة أخرى في الأيام والأسابيع القادمة، لقياساتٍ جديدة تسمح بدراسة تطورات حياة هذه الكائنات الرقيقة، وتفاصيل علاقتها بمحيطها الطبيعي.
مرآة الأرخبيل وذاكرتها النابضة تنطوي في مناقير وجينات هذه العصافير.
ترتبط فيكتوار مع بعضهم بعلاقة حميمة، كما هو حالي معهم أيضا.
ثمّ تترك العصفور يطير بعيدا بعد توديعه (بصعوبة أحيانا).
يطير عاليا، إن لم يعد نحونا مجددا، بوعي أو بلا وعي، من فرط سعادتهِ بتمسيد فيكتوار العاشقِ له، وأنا أيضا الذي لا أتركه يطير دون ملاطفةٍ وتربيتٍ لا يقلّ عشقا، أغرِّدُ وأرفرفُ سعادةً في حضرته، وحضرة فيكتوار، في هذا الخلاء الملائكي.
فيضٌ من الجمال والإنسانية يطمّ الأرخبيل.
كيف يمكن لمرءٍ وصل هنا، ولامسَ هذه العصافير مثلي، ألا يعشق الحياة بضراوة، وألا يحب الجمال والحرية والإنسانية، ويكره الحروب والعدوان والكراهية…
ثمة 13 نوعا بيولوجيا من عصافير البانسون، موجودة جميعها هنا على الأرخبيل، لا غير. مِلكُه وحدُهُ لا شريك له. لا يوجدون جميعهم إلا فيه فقط.
تحليل جيناتهم جميعا برهن أنهم سلالة لمجموعة بانسونات غادرت، قبل دهر طويل، قارة أميركا الجنوبية (الإكوادور أساسا)، وطارت غربا باتجاه شرق الأرخبيل.
قطعوا، في سالف الأوان، رويدا رويدا، كلّ المسافة بين القارة والأرخبيل، على مراحل، بعد المكوث على طريقهم في الصخور والجُزَيرات المتناثرة هنا وهناك.
تعلوهم سماءٌ نقية غالبا، ويحيطهم بحرٌ فيروزيٌّ لا سناء كسنائه.
أقبلوا مثل بُدورٍ من ثنيات الوداع. كل تقدّمٍ جديد في هذا المحيط متعةٌ وثراءٌ، اكتشافٌ لذيذ، وموائدُ دسمة ثريّة.
زقزقاتهم وأهازيجهم تتناغم مع تلألؤ انعكاسات شمس المحيط الهادئ على تجاعيد أمواج البحر.
جاؤوا هكذا من هناك، مثل كريستوفر كولمبس ورفاقه الأوروبيين وهم يصلون إلى أميركا. حطّوا في الأرخبيل برقّةٍ وسلام، ليسا من طبيعة الأوروبيين عندما غزوا عالَمَهم الأميركي الجديد وعمّدوه بجرائمهم التاريخية.
سكنَتْنِي رحلتُهم: كم تمنّيتُ مرافقتهم خلالها، بانسونا مثلهم، أغزو معهم هذه الصخور أو تلك، أنطّ هنا أو أحطّ هناك، أتقدّم مثلهم… مثلما تقدّمَ الإنسان عندما خرج من مهد البشرية: أفريقيا، رويدا رويدا، حتى وصل ذات يوم إلى أستراليا، ثمّ تأقلم وتناسل داروينيّا مندمجا مع بيئات بلدانه حيثما حلّ، وظروفها الخاصّة.
ثمّ انتشروا في الأرخبيل، تكيّفَتْ سلالتُهم رويدا رويدا مع هذه الجَزيرة أو تلك، ليختار قانونُ الانتقاء الطبيعي منهم من ينسجم بناؤه الجسدي، لا سيّما منقاره، أفضل من غيره، مع سبل وأشكال التغذية في هذا العالَم الجديد، وليعطيهِ لذلك فرصةً أفضل في الحياة والإنجاب، وفي تحوّلِ سلالتِه مع مرّ الزمن من “تحت نوعٍ” بيولوجي إلى نوعٍ منفصل…
13 منقارا مختلفة بينها البين. بعضها نحيفٌ طويلٌ حاد. أخرى عريضة قصيرة، وأخرى عريضة جدا، معطوفة على نحوٍ غريب.
13 مصدرا للدهشة الحميدة الخلّاقة.
تصادقتُ مع بعضهم، من أنواع بانسون الصبّار. لم أحب “البانسون النباتي” الذي قذف على أصابعي حالما رآني، لسببٍ أجهله. نوعٌ نادرٌ هنا، كما يبدو. موقعهُ الاعتيادي المناطق الجافة الرطبة، قرب نقاط التقاء الجُزُر.
عذرتُه على قذفِه، وأنا أسمعهُ يغنّي، ثم اندغمْتُ به هو الآخر…
الأرهب: برهن المركز هذا نفسه أن تغيّرات بيولوجية طرأت على طيور البانسون، وعلى أشكال مناقيرهم، منذ السبعينات من القرن المنصرم، جراء جفاف حلّ بالأرخبيل، وتغيرات بيئية لحقت ذلك.
كما احتفل المركز مؤخرا، والعالَم معه أيضا، باكتشاف ولادة نوعٍ بيولوجي جديد من البانسون، الرابع عشر، بسبب بعض هذه التغيّرات في بعض الجزر.
أعيش هذه التجربة بكل أحاسيسي. ألتقط مثل فيكتوار هذه العصافير التي نصطادها، أفتح مخالب أقدامها الرقيقة وأطويها على أصبعي.
أحدِّق في العصفور طويلا بحب، وهو واقفٌ على غصن أصبعي، أتمحّصُ في نظراته وهي تراقبني. يمرُّ تيّارٌ ما، نتحدثُ لغةً ما…
لم أنس، قبل أن أترك مركز الأبحاث، التوجُّهَ للانحناء أمام ضريح “جورج الوحيد”، آخر نفرٍ من نوعٍ من السلاحف العملاقة، انقرض من البسيطة يوم 24 يونيو 2012، بعد أن ناهز المائة عام.
لم يتمكّن المركز من العثور على أنثى من نوعه لتزويجه بها، لمواصلة بقاء هذا النوع على كرتنا الأرضية الحزينة.
أحيا دوما انقراض نوعٍ بيولوجي من الأرض لحظةً تراجيديةً، تعصر قلبي عصرا.
وجدتُ ثمّة، عند المتخصصين بالسلاحف العملاقة، كل الردود حول التساؤلات التي خامرتني حالما حطّتْ رحالنا في الأرخبيل: كيف جاءت هذه السلاحف العملاقة إلى هذه الديار؟
أبحاثٌ جديدة درست حمض ال DNA للسلاحف العملاقة، الحيّة والميّتة، في كل الأرخبيل، ورسمت كل التاريخ التطوري لها، منذ “آدم السلاحف” إذا جاز القول، إلى الآن.
تطوّرتْ، مثلما تطوّرنا نحن البشر، الهومو سابيانسيون (الأناس الحديثون)، من أصول أقدم: هومو إركتوس (الإنسان المنتصِب)، هومو هابيليس (الإنسان الماهر)…
عرفتُ هناك: تستطيع بعض السلاحف الضخمة السباحة خلال أسابيع، وقطع مئات الكيلومترات، ورقابها الطويلة تتنفّس أعلى الماء، وفي أحضانها وأعطافها ما يكفي لِغذاء الرحلة.
لِسلاحف الغلاباغوس أهلٌ في قارة أميريا الجنوبية، لهم تراثٌ جِينيٌّ وجَدٌّ مشترك، قبل ملايين السنين. بيد أن هذه السلاحف العملاقة الفريدةَ بنات بيئتها الغلاباغوسية، تأقلمتْ معها، وتضخّمتْ في رحابِها، على إيقاع قانون الانتخاب الطبيعي.
المدهش: نتائج دراسات التطورات الجيولوجية والبيئية في الأرخبيل تتعانق مع نتائج الدراسات البيولوجية التطورية لهذه السلاحف، خلال ملايين السنين، في انسجام بديع (قبل 3 ملايين عام، كان التوزيع الجغرافي للجزر التسع عشرة في الأرخبيل مختلفا عن اليوم).
أعيش هذه اللحظات الخالدة بقلبٍ يرفرف سعادةً ودهشات!
ما أجمل الحياة!
المجدُ لِلعلْم، المجدُ لِلحياة!
حرب ترموست الشاي وأخواتها
حرب ترموست الشاي وأخواتها
حبيب سروري
تاريخنا الحديث في اليمن سلسلة من حروب أهلية متسارعة الاندلاع، كل حرب أبشع وأطول وأكثر كارثية من سابقتها.
عندما كنتُ طفلا، عرفت حربين أهليتين (دامت كل واحدة أسبوعا بالكثير)، في أواخر عام 1967، بين الجبهتين اللتين خاضتا الكفاح المسلح ضد الاستعمار الإنكليزي لجنوب اليمن.
لم يعد يتذكر أحد هاتين الحربين لأنهما لعبتا أطفال، أو نزهتان عابرتان، بالمقارنة بالحروب التي تلتهما. ومع ذلك، كل واحدة منهما كانت بالنسبة لي: يوم قيامة.
بفضلهما، “اكتشفت أني أكبر خوّافٍ في الكون عندما أسمع أصداء الرصاص. يُغمى عليّ، تنتفخ شراييني، تخونني غددي العَرَقية والبولية، تفلتُ ركبتاي، ترتعش أعصابي، تنشدّ عضلاتي، ترتجف غضاريفي، تنزلق خياشيمي المخاطيّة، تنقبض حويصلاتي الهوائية، تتكلسن عصبوناتي المخيّة، أتقيأ غدّتي الدرقيّة، يهاجمني سعالٌ ديكيّ وآلامٌ حادّة في النخاع الشوكي والعمود الفقري والطحال المنفلوطي، وأصابُ بصرعِ القرود وجنون البقر”…
بدأ الجدّ بعد هاتين الحربين: كنت في “جولَة كريتر”، في قلب عدَن، في العاشرة صباحاً من يوم 13 يناير/ كانون الثاني 1986 عندما انفجرت الحرب بين تيارين في الحزب الحاكم “الذي لا صوت يعلو فوق صوته”.
ولأنه كان زمنُ بلاغةٍ خشبية لا تتكرّر، فكان لكل تيار اسم: “الطغمة”، و”الزمرة”.
اختبأتُ، مع زبائن البنك المجاور للجولة، في سراديبه تحت الأرضية، عشرة أيام، بدون أكل، وبماء شحيح.
عشرة أيام وليال قضيّناها نرتجف، دون توقّف، من لعلعة ودويّ الأسلحة الثقيلة والخفيفة، على بعد أشبار من البنك، ومن قصف المدرعات وأسلحة الطيران والسفن في الوقت نفسه.
لم تكن حربا كبقية الحروب. كانت مذبحةً جماعية. زلزالا حطّم الأخضرَ واليابس، الجدرانَ والأسسَ والمداميك.
زلزالٌ كلُّ ما يليه في السنوات والعقود القادمة هو النكبة والنكسة عينها. إذ لا تكمن تراجيديته وخرائبه في الأيام التي تفجّر فيها فقط، لكن في ازدياد تضاعف هذه الخرائب والتراجيديات مع مرور الزمن.
هكذا كانت مذبحة “13 يناير”: نهاية شيءٍ ما، وحلمٍ ما، إلى الأبد: فاتحةُ خرابٍ جذريٍّ نهائي، أسوأ وأشنع مما سبقه، يزداد إلى الآن يوما بعد يوم.
أنهار دماء سالت خلالها في كل أحياء عدَن. 13 ألف قتيل خلال عشرة أيام. ليس ذلك الأهم ربما. الأهم والأبشع: كيف حدثت هذه الشناعات، وكيف مرّت تلك الأيام، وماذا تركتْ بعد ذلك من تداعيات وعواقب، حتى اليوم؟
كانت مذبحة تدميرية شاملة، بلا أخلاق، كشفتْ حجم الشرّ والشيطنة في النفس البشرية.
بدأتْ، كما يعرف الجميع، بِترموست شاي يحمله حارسٌ إلى مقعد الأمين العام للحزب (رئيس الزمرة)، قبل مجيئه للاجتماع، حيث ينتظره بقيةُ أعضاء المكتب السياسي، خلا أعضاء المكتب السياسي الموالين له من الزمرة.
قبل مغادرة باب الصالة، يدور الحارس ليطلق النار على أعضاء المكتب السياسي الحاضرين!
واااااو!
هكذا، بكلِّ سهولة، بعد رُبع قرنٍ من كفاحهم المسلّح المشترك لتحرير عدن وجنوب اليمن من الاستعمار الإنكليزي، ثمّ بنائهم “أول تجربة اشتراكية علْمية في العالَم العربي”، يتبادل “رفاق الثورة والنضال” رصاصاً في الظهر!
غدرٌ صارخ: الأمين العام كان مختفيا خارج عدَن، مع بقية أعضاء الزمرة من المكتب السياسي. وما مجيء ترموست الشاي إلا تمويهاً فنيّاً يسمح بدخول الحارس للقاعة، لإيهام الحاضرين بأن كل شيء على ما يرام، والاجتماع قائم، والأمين العام قادمٌ بين دقيقة وأخرى.
أي لمن لم يفهم بعد: لم يكن ترموست الشاي، ووابل رصاص الرشاش في أظهر الحاضرين، غير صفّارة بدء المجزرة.
من ينسى صفارات بدء مجازر الغدر الكبرى في أحلك أيام العصور البائدة؟:
500 من قادة المماليك يدعوهم محمد علي بمناسبة سفر جيشه في حملةٍ للحجاز بطلبٍ من “الباب العالي”.
ينظّم جلالته حفلا سلطانيا متخما بألذّ الموائد وأطيبها لتكريم المماليك. أكلٌ وفير، شرابٌ هبط من أنهار جنّة الفردوس، وغناء لا أعذب منه.
ثم يدعوهم لتوديع الجيش الذي يسير أمامهم في طريقٍ منحدرٍ تمّ اختياره بعناية.
خلفهم فريق من العسكر الألبان أعطاه “عزيزُ مصر” مهمةً خاصّة.
ثم طلقة نار (كلمة السر، صفارة بدء المجزرة)، ويحصد العسكرُ الألبان المماليكَ بالنيران من الخلف.
غير بعيد من هناك، بجانب باب قلعة القاهرة، كان محمد علي باشا “مُطنطنا”، يدخن غليونه بهدوء…
قبل ذلك بقرون، ملِكَان يحتفلان بتوقيع هدنة، في مائدة شهيرة يُطلَقُ عليها”مائدة رافين”، باسم المدينة الإيطالية التي سيتم فيها التوقيع، بعد قليل.
الأول ملك تدعمه الإمبراطورية البيزنطية، والثاني ملك تدعمه الإمبراطورية الرومانية.
المدعوون للمائدة مئات، بل آلاف، من قادة الجيشين وكبار الأعيان.
يجلس حول المائدة كل ممثل من الإمبراطورية الأولى بجانب كل ممثل من الإمبراطورية الثانية، لتعميد حفلة التآخي والسلام والصداقة بين الشعوب. وليمة إمبراطوريّة، لحوم فاخرة، شراب معتّق خاص، وغناء أخوي مشترك، تتخلله دردشات ثنائية مترعة بالحب والصفاء.
ثمّ يقف الملك البيزنطيّ ليفتتح رسميا حفلة الصداقة وتوقيع الهدنة، بشرب نخبٍ بصحة الملك الرومانيّ وعساكره وديوانه وأعيانه.
تدق الموسيقى (كلمة السر، صفارة بدء المجزرة): يُخرِج كل مدعوٍّ من المملكة الأولى خنجرَه ليضعه في مركز قلب جاره الأيسر من أبناء المملكة الثانية.
بعد صفارة غدر 13 يناير، تتفجر الحرب التي استعدَّت لها الزمرةُ منذ أشهر، وانتصرتْ فيها الطغمةُ، لأن موازين القوى كانت لصالحها.
غدرُ الزمرة، ثم التصفيات الانتقامية الحاقدة المضادة التي قامت بها الطغمة (بمجرد فحص البطاقة الشخصية لهذا أو ذاك، وملاحظة أنه وُلِدَ في منطقة هذا القيادي أو ذاك من الزمرة!) كشفَتْ الوجه القبلي والمناطقي القبيح لمن لبسوا قناع الماركسية اللينينية.
انتهتْ بعدها تجربة الاشتراكية العلمية في اليمن، سقطت كل المكاسب الاجتماعية، وماتت دولة النظام والقانون. أقفَلَتْ “الكلية العليا لعلوم الماركسية اللينينية” أبوابها، نسي الجميع كلمتهم الأثيرة: ديالكتيك، وأضحت الأرضية جاهزة للانتقال من تطرُّفٍ إلى آخر: تطرّفُ السلفية والظلامية التي أرساها العائدون من أفغانستان، بالتحالف مع أسوأ طاغية كان يحكم شمال اليمن، ثم استولى على اليمن كليّة (بعد الوحدة اليمنية)، وحوّل جنوبه إلى غنيمة حرب له ولقبيلته وأعوانه، ولكل السلفيين والظلاميين، لا سيما بعد حرب جديدة أخرى، أبشع وأفتك من حرب 1986، في 1994، عندما غزت قبائله وأنصاره وجيشه خلالها جنوب اليمن وامتهنه كلية، وقضى على كل رموز التقدّم والمدنية فيه: من وضع المرأة والتعليم التنويري، إلى التقاليد الإدارية المدنية والقوانين الحديثة كقانون الأسرة (بعضها بمستوى قوانين تونس اليوم)، مرورا بمصنع البيرة: صيرة!
ثم حروب صعدة الستّة، في مطلع الألفية الحالية، التي خاضها الطاغية ظلما وبهتانا ضد سكّان صعدة (ذوي الانتماء الطائفي “الشيعي”) وقتلَ فيها: “القرآن الناطق”: أخ الكهنوت الصغير الذي يحكم صنعاء الآن.
ثمّ ثورة ربيع الشباب في فبراير/ شباط 2011 التي بدأت أروع بداية، وفتحتْ كل الأبواب للحلم والتغيير، قبل احتوائها سريعا بعد انضمام جزء من الجيش لها، وتحويلها إلى حرب عسكرية، بين جناحين متضاربين على السلطة، كانوا جميعا في خدمة الطاغية، واختلفوا في الأساس فقط حول الموقف من عزمِهِ على توريثَ الحكم لابنه.
ثمّ تنحيةٌ طفيفة (حسب اتفاقية سياسية بائسة فرضتْها الدول الخليجية المجاورة) للطاغية الذي رفض أن يغادر أو ينخلع. ظلّ بيده كل شيء، لا سيّما الجيش والمال ورئاسة الحزب الحاكم.
تحالفَ بعدها مع من خاض ضدّهم الحرب في صعدة، للانقلاب على نائبهِ (أحدِ رموز “الزمرة” سابقا، وتلميذِه الأوّل في فن الحكمِ البائسِ الفاسد، منذ أكثر من عقدين) الذي حلّ رئيسا محله، وصار اليوم قائد “الشرعية”، منبع الخراب الآخر لليمن.
نجح الكهنوت والطاغية في تحالفهما، وبدآ حربَهما الساحقة هذه، التي لم تنته بعد، بتدمير عدَن، ثم تعز.
جلب سريعا عدوانُهما الداخلي هذا عدوانا خارجيا دعتْ له “الشرعية” الفاسدة، يستخدم أحدث الأسلحة لتخريبٍ موازٍ لليمن، لا يقل عن تخريب العدوان الداخلي.
ثلاث سنوات تقريبا، منذ بدأت هذه الحرب الكارثية الجديدة، والطويلة جدا. الأكثر طائفية وشناعة واستنزافا وتمزيقا لليمن، من طرفهِ إلى طرفِه.
لم تعد اليمن فيها غير أرخبيل قطاعات للمليشيات (وإن تحرّرتْ عدَن مثلا من غزوِ الانقلابيين)، يتقاسمها القراصنة والسلفيون، ويعبثُ بها عساكر أطراف التحالف العربي، ومن يدور في فلكهم من المليشيات والقوى المحلية.
تتشظّى يوما بعد يوم، تحترقُ بصمت، تموت على نارٍ هادئة، بدون اكتراث العالم.
سؤال جوهري: لماذا لا ندرس كل هذه الحروب معا، نُحلِّلها طويلا كظاهرة واحدة، نستخلص عبرها جميعا، بدلا من نسيان كل حرب سابقة، لتبدأ، أسرع من قبل، أختٌ لها، أشنع وأطول وأفتك مما سبقها من الحروب؟
من كتاب صلالة
من كتاب صلالة
حبيب سروري
برمجتُ فاتحة رحلتي إلى عُمان بالمدينة الميثولوجية الرائعة: صلالة (قلب ظفار، على يمين المَهْرة وحضرموت في اليمن)، الأخت الصغيرة لعدَن.
أصلُها. أبدأُ التسكّع في هذه الديار الظفارية.
خارطة الطريق: ريخوتْ، خرفوتْ، أفتلقوتْ، ضلكوتْ، دمغوتْ، وربما مدينة قريبة في اليمن: سيحوتْ…
الرحلة تتحوّل إلى قصيدة شِعرٍ في هذا الملكوتْ (خاطرةٌ دهمتْ ربما سيّدنا يونس وهو يتأمل ويفكِّر في بطن الحوتْ).
أي في ملكوتِ هذه الديار الظفارية المهريّة الحضرمية التي ينبع الشِّعر من أديمِها وبعيرِها وكثبانِها ونخيلِها وبريقِ أعين بناتها، في قلب “جمهورية الأحقاف الديمقراطية”.
آه، هذا الاسم الميثولوجي الخالد: الأحقاف[1]، عُمان واليمن: طرفَا العربية السعيدة!
لم أحتج وقتا طويلا للسقوط في غرام هذه الديار، بل في غرامها العاتي يلزم أن أقول.
غابات وتلال أشجار اللبان تحيط بصلالة. أشجار مقدّسة. الشحم الأخضر الشفاف ذو الرائحة العبقة الذي يخرج منها، عندما يجرحها الإنسان بشفرة خنجر أو سكين، أسرني. أعشق استنشاقه ولوكه ومضغه معا.
لكل شيء في هذه الديار رائحة اللبان والبخور والعود، وكأنما الأرض العُمانية بأسرها تستحمّ في حمّام لُبان وعطر، كل صبحٍ ومساء.
النخيل الخصبة في كلِّ صلالة. ثمارٌ غدقة، عيونٌ وأودية خلّابة، وعصافير كما أعشق، في كلِّ مكان.
أستحضر تاريخها منذ القرن الثالث قبل الميلاد، عندما مدّ أهل حضرموت نفوذَهم إلى ظفار، وبنوا ميناء سمهرم لتصدير اللبان (مصدر ثروة عظيمة وسعادة حينذاك)، وحكَم المنطقة: ملكُ سمهرم، ومكربُ[2] حضرموت.
أعود إلى الوراء، أستحضر زمنا أقدم من ذلك بكثير. عندما كانت كل هذه الديار جنّة الأرض، مرتعا للأودية في كل مكان.
تنحدرُ أنهارُها من أعالي جبال اليمن وظفار إلى أقصى شمال شرق الجزيرة العربية الخضراء اليانعة، قبل الجفاف الشديد الذي تعرّضت له في نهاية عصر البلايستوسين، لِينتشر بعده التصحّر وشبه التصحّر الحالي، في بقاع شاسعة من أرض الأحقاف المقدّسة.
هاجر معظم سكانها، بعد الجفاف، شمالا، ومنهم من صمد وتمركز في السواحل والأطراف.
انضافت لحياتي بسبب هذه الأفياء الساحرة محنة جديدة: عشق اللغة المهريّة.
ثمّة مجموعة لغاتٍ هنا، آتية من رفات اللغة السبئية القديمة. أي: من بقايا جذور اللغة العربية الحديثة.
أتساءل: هل تتكلم بدويّتي ـ الأوروبية الحبيبة، وحي، إحدى هذه اللغات؟
كان حلمي القديم أن أتعلَّم اللغة السواحلية، لغة أجداد البشرية في شرق أفريقيا، لغة “أكونَ ماتاتا”، ورقصة “هيا لَويْ، هيا لَوِيْ، يا مْلَنْجَة”.
أما الآن، وقد توَّحدتُ مع هذه الديار الظفارية، وعشقتُها بضراوة، بعد أربعة أيام من وصولي وانتظاري ردَّ وحي على أحر من الجمر، فقد انضاف شغف جديد: تعلّمُ اللغة المهريّة، حفظُ وترجمةُ شِعرِها، الإصغاءُ لحِكَمِها.
قرّرتُ هكذا ألا أسمّي فصل الخريف، بدءا من اليوم، إلا على الطريقة الظفارية المهريّة السبئية: خرفوت، وأن أضيف كلمات سبئيّة جديدة لقاموسٍ مندثر: عِشقُوت (العشق)، وَحْيُوت (وَحْي)…
عبر هذه اللغات سأسافر من الباب الذي يقود إلى عالمَين: أصول اللغة العربية، وبقايا اللغة السبئية.
وإلى باب ثالث ربما: اللغة العبرية، التي تشبه كثيرا هذه اللغات[3].
أوقفتُ سيّارتي، وألقيتُ رحْلي: على تخوم مراعي الجِمال خارج قرية الحشمان، على بعد حوالي 250 كيلومترا شمال صلالة، في حافة أجمل وأكبر صحراء في العالم (ثلاثة أضعاف مساحة بريطانيا): الربع الخالي.
كم أشعر بسعادة لا توصف، وأنا في صحراء خرج منها أروع الشعراء وأعظم المجانين.
حولي كثبان مهيبة هائلة تحيطني من كل جانب. جبالٌ من الحرير. تلالٌ من الرمل بِلَونٍ صحراويٍّ أمغر ناصع، لا يخلو من توهّجات ذهبية برتقالية حمراء.
للكثبان أشكالٌ ومنحنياتٌ وتماوجاتٌ آسرة، حادةُ الحواف أحيانا: نهود، مؤخرات نسوية رقيقة، جزر، أمواج بحْريّة عملاقة، تلال، أهرامات، قواقع، حيوانات أسطورية…
للطبيعة هنا مناظر وألوان مريخيّة (على بعد 15 كيلومترا مني، فريقٌ سينمائي يُصوِّر المكان، كبديلٍ لمناظر يفترض تصويرها في الكوكب الأحمر!).
لديّ خيمةٌ أحضرتُها ونصبتُها وحدي. زادي: مقاديد[4]، حجارة خاصّة لشواية اللحم، حطب، حليب إبِل، تمر، خبزٌ بدوي، طحين، قهوة عمانية، وصمت الصحراء العميق، لا سيّما في هذه السويعات اللدنيّة التي تسبق الغروب الناعم البطيء.
أبدأ بإشعال حطب النار وسط الموقد الصحراوي (حول مواقد كهذه اجتمع الشعراء والحكماء قديما، وقالوا أحلى الكلام. أتخيّلهم حولي، أصدقائي الأحباء: زهير وعنترة، ليلى بنت المهلهل وتأبّط شرا، النابغة الذبياني، وأمرأ القيس طبعا).
ثمّ أُكوِّم عليه الحجارة الخاصّة بعد تنظيفها، لأضع عليها لاحقا مقاديد لحمِ رضيعِ الجَمل، الخاص بوجبة “المَضْبي” البدوية العُمانية.
أحيّي هذا الغروب المقدَّس بكأسِ نبيذٍ شعشعانيٍّ ختامُه مِسك، “سيجعل عمر الخيام يستيقظ من قبره”، حسب مصطلحٍ شعبيّ.
ألاحظ: في علياء الكثيب المواجه لي شجيرةٌ وحيدةٌ غريبة! كيف يمكن أن تنمو شجيرة في هذا السياق المريخيّ، هنا في أنقى وأجفّ صحراءٍ (تحمل اسمها بجدارة: الربع الخالي)؟
سأعرف لاحقا من أحد سكان قرية الحشمان أنها نمت إثر مطر نادر غزير دام حوالي أسبوع، في عام 2002.
ثمّة إعجاز في نموّها. أو لِنقلْ: هي من نوعٍ نادر له جيناتٌ خضراء مباركة سعيدة، تكيّفتْ داروينيا مع هذا الجفاف العظيم.
أشعر بسعادةٍ لا توصف في هذه البادية الصحراوية.
أعبر صفحات كتاب هذه الكثبان حافيا، أتفجّر سعادة.
أتمعّن في تشكيلاته الساحرة، أحلِّق في فضاءاته اللانهائية المفتوحة، أتمضمض سحر هذه اللحظات، أعيشها ببهجة لا توصف.
أتحدّثُ مع الرمال، أستنطقُها تاريخَ من عبروا هنا، يوميات أمرئ القيس، زهير بن أبي سلمى، عنترة العبسي، طرفة بن العبد، ليلى بنت المهلهل، كعب بن زهير، تأبّطَ شرّا، النابغة الذبياني…
يطلّ القمر كاملا من خلف الكثيب الذي تقع عليه الشجيرة، أمام الخيمة مباشرة. نجومُ الصحراء تغمرُ السماء، تملؤها من الأفق إلى الأفق. شهُبٌ قريبةٌ مني، بين الآن والآن. ووجهُ حبيبتي البدوية ـ الأوروبية، وحي (ذي الجمال الفاتن، كما صمّمته ريشة ليوناردو دافينتشي تخيلاتي)، ينتصّ فجأة ملء صفحة السماء، يرتسم على كل هذه النجوم المتلألئة القريبة جدا من الرمال المحيطة بالخيمة، يملأ كل فراغ الربع الخالي…
أنام بقلبٍ يرتجف مع اقتراب موعد رؤيتها. غدا صباحا؟
أم غيهبُ الغسق الإلهيِّ هذا هو موعد اللقاء الربّاني الذي أنتظره بقدسيّة؟
فلعلي، من يدري؟ أعيش غسقا شبيها بالذي جعل شاعرا بديعا يقول يوما آيات خالدة: “جاءت معذبتي في غيهب الغسق”.
ثمّ صحوتُ إنسانا آخر يغمره الأمل العارم والصفاء الذهني الخلّاق والطاقات الإيجابية الدافقة.
الفجر مريخيٌّ بامتياز. بزوغهُ لحظةٌ إلهية. القمر في منتهى اكتماله، خلف الخيمة الآن.
أشعلُ وقيدَ الحطب مجددا لنشر الدفء في هذه السويعات الباردة.
أصعدُ نحو الشجيرة المنتصّة في علياء أكبر كثيب، لرؤية الشروق منها، واستقبالِ وتحيةِ الشمس.
قلبي يرتجف في انتظار الموعد. الشوق متوهِّجٌ كثيفٌ جدا.
الشمسُ تُطلّ كشيخ عجوز ينهض ببطء. هذا الشيخ إله الصحراء. كل رمالها وفضائها تركع له، تخافه، وتُحبّه.
ريحٌ صحراويّةٌ خفيفة تداعب سفوح الكثبان، تجعلها تنزلق هنا وهناك، تعيد رسمها وتشكيلها، تُحرِّك عليها أمواج غبارٍ رقيقةٍ تشبه عُرف الخيل…
أهبط نحو الخيمة. أنظر باتجاه الشجيرة. يبدو لي كما لو أن إنسانا يقف بجوارها.
لا يمكن من هنا تمييز من يقف في الأعالي، خلف ستار عُرف الخيل الغباري.
أهرعُ صاعدا نحو الشجيرة. ثم في منتصف الطريق، ألاحظ أني لم أعد أرى أحدا بجانبها.
أهبط خائبا. ثم أراقبها من جديد. عاد الطيف بجوارها. لا أهرع هذه المرّة. أنتظر طويلا لأتأكّد أني لا أحلم.
أعرف أن الصحراء مملكةُ السراب (ظَمْأنوت، باللغة المهرية). وهذا الربع الخالي ملكوتُ سراب كل الشعراء والأنبياء والحالمين.
أتمعّن بتدقيق..
أرى فعلا إنسانا واقفا بجانب الشجيرة، ولا أحتاج لقرصِ جلدي، لأني ما زلت ألهثُ إثر صعودي السريع وهبوطي قبل قليل.
أهرعُ من جديد نحوه. وفي منتصف الطريق، لا أرى أحدا. خيبةٌ أخرى.
غير أن يقيني ثابت بأني قد رأيت إنسانا بأمِّ عينيّ. ولا يستطيع أحدٌ زحزحة هذا اليقين، بما في ذلك أي فريق من المتخصصين في “علم النفس الصحراوي”، أي في طبيعة النفس البشرية التي تعيش في ظروف الأفياء الصحراوية.
ثمّة سرّ لا أستطيع استيعابه.
أهي المساحات الدماغية في تقاطع مناطق الشعور ومناطق التماهي مع الشعور؟
ألأنَّ “معادلة الوحي” (إسقاطٌ تخييليٌّ خصب + تماهٍ نفسيٍّ حاد = حقيقة مطلقة) تتحقّق، أفضل ما تتحقق، في خلاء الصحراء، مسرحِها العظيم بامتياز؟
أم أني لو بقيتُ شهرا واحدا هنا، دون أن يحيطني فريق من المتخصصين في علم النفس الصحراوي، فسأتحوّل مجنونا أو مهديّا منتظرا أو طيفا أو نبيّا أو إلها صحراويا؟
أعود خائبا للخيمة. لا أنظر مجددا باتجاه الشجيرة. أعيد قراءة إيميل وحي الأخير، للمرة السابعة والسبعين: “إخبرني أين أنتَ في ظفار، وسأمرُّ لتحيّتك!”.
أنتظرُ اللحظة الإلهية لوصولها، أنتظر التحية، هنا قرب هذه النار، بجانب هذه الخيمة.
هوامش:
[1] صحاري ووديان جنوب جزيرة العرب.
[2] لقب رسمي للحاكم في اليمن، أعلى من لقب ملك، يُعطى لمن يتجاوز ملكُه أرض مملكته.
[3] يكفي ملاحظة أن اسم مجلة “يدعوت حرانوت” العبرية اليمينية المتطرفة، يعني “آخر المعارف”، أو: “قمة المعارف”، في حين “حورنوت” بالشحريّة الظفارية والمهريّة تعني “قمّة”، و”أدعوت” تعني “عرفتُ”.