القراءة من دون شاشة ليست قراءة!

حبيب سروري

“القراءة من دون شاشة ليست قراءة!”؛ قالت بهدوء طالبتي الذكيّة التي تقرأ كثيراً كما ألاحظ وهي تشتغل معي على أطروحة الدكتوراه منذ 3 سنوات، لكنها لا تطيق قراءة كتابٍ ورقيٍّ أو نصٍّ مطبوعٍ على ورق.

لا أبالغ: صار كثيرٌ من أبناء هذا الجيل، الذي التصقت عيونه بالشاشات منذ أكثر من عقدين، يعزف عن قراءة الورق، كما لو كانت عادة سحيقة مارسها الأجداد الصالحون في زمن هوموإيبيليس!

قراءة النص الورقي يُتعِبُهم، لم يعد يتكيّف مع أعينهم وأدمغتهم، ويصيبهم بالدوخة أو وجع الرأس!

 

بعد معاينات لأدمغة أطفال الإنترنت أثناء قراءتهم للنصّ الورقي أو للنصّ الرقمي على الشاشة (القراءة الأولى خطيّة، والثانية شذراتيّة)، وبعد دراسات حديثة للتغيّرات التي حدثت في أدمغتهم جراء استخدامهم لألعاب الفيديو ذي الأبعاد الثلاثة ولوحات المفاتيح، يجوز التساؤل إن لم نكن أمام بدايات تغييرات فيزيولوجية، قد تقود بفضل قانون الانتقاء الطبيعي من جيل إلى جيل، إلى نوعٍ بشريٍّ جديد: هومو إليكترونوس!

فعندما ترى بعض أطفال اليوم وهم يبعثون سرّاً نُصيصاً هاتفياً (إس إم إس) من هاتفٍ محشورٍ في الجيب، دون مشاهدة لوحة مفاتيحه، فيما يتحدثّون معك في الوقت نفسه، ستستوعب أن ثمّة أشياء في بنية أدمغتهم تتغيّر، نحو الأفضل أحياناً، ونحو الأسوأ أحياناً أخرى.

فمن ناحية، قادت هذه التغيّرات إلى مَلكة “ذكاء الأصابع” حسب تعبير فريق أبحاث إيف كوبانس، المكتشف الشهير لِجسد جدّتنا لوسي في أثيوبيا، وإلى ما أشاد به من مواهب جديدة اكتسبها أطفال الإنترنت في العلاقة بين العين واليد، وفي التفاعل مع الفضاء المحيط.

ومن ناحية أخرى، فقدوا شيئاً من المقدرة على التركيز والتذكّر بسبب إدمانهم الكمبيوتر والإنترنت، أعطت لهذه العبارة: “أحنّ إلى دماغي الذي سبق الإنترنت!” قيمتَها ومحلَّها من الإعراب في عالم اليوم.

 

لهذا الجيل الجديد: القارئُ الإلكتروني كتاب اليوم بامتياز.

إذا ما هاجمْتَهم بمدح الكتاب الورقي والتغنّي برائحة الأوراق، فسيقولون لك إن رائحة الكافور تثير تقزّزهم، وإنك تمارس أشواق الموميات، لأن الإنسان القديم كان يحنّ أيضاً لرائحة أوراق البردى والألواح الحجرية قبل صناعة الكتاب الورقي أيضاً، لكنها سنّة الحياة.

 

القارئ الإلكتروني، مثل كندل الذي تبيعه شركة أمازون (أقلّ من ربع سعر الآيفون)، غيّر حياة من له تجربةٌ معه، مثلي، لصالح القراءة الإلكترونية.

لأقولها من البدء: لا يعني ازدهارُ هذه الطريقة الجديدة في القراءة موتَ الكتاب الورقي، كما كان يخاف الجميع. لكنها تجربةٌ جديدة، مثلها مثل الآيفون الذي لم يقض على الهاتف الثابت، ولم يقض على الاتصالات. بل العكس: لعب دوراً في مضاعفة تواصل الناس ببعضهم البعض، وفي تجديد حياة الهاتف الثابت.

كذلك، رغم اكتساحِ القراءة الإلكترونية للقراءة الورقية (حوالي 30٪ من مبيعات الكتب في أمريكا إلكترونية)، وأخذِ الأولى عموماً نصيب الأسد من حياة الإنسان، لم يختف الكتاب الورقي، بل ازداد استخدامه في مجالات معيّنة مع ازدياد القراءة الإلكترونية في هذه المجالات نفسها!

لكنه اختفى تقريباً في مجالات أخرى كالموسوعات، القواميس، معظم الكتب العلميّة، وثائق المؤتمرات العلمية.

كلّ ذلك ضمن إتجاهٍ عامٍ لحضارة اليوم هدفُهُ إلغاءُ الورق في المعاملات، عبر الرقمنة وإجراءتٍ عولميّةٍ لتوحيد صيغ وبروتوكولات تبادلها الرقمي، اسمه: Dematerialisation، أو: “الاسترقام”، حسب مقترح ترجمةٍ أنيقةٍ للمصطلح على وزن “الاستسقاء”، اقترحهُ الأستاذ فاروق مردم بيه.

 

مثل غيري، كنتُ من المتعصّبين للقراءة الورقية، ولي مثلهم معها طقوس وشجون وعلاقة غرامية حميمة يصعب خيانتها. لكن “الحياة تجري بما لا اشتهي”، وها أنذا أعيش بعلاقتين متناغمتين متكاملتين: القراءة الورقية والقراءة الإلكترونية على الكندل.

 

للثانية خصائص مُغرية يستحيل عدم الوقوع في أحضان سحرِها. فشاشة القارئ الإلكتروني تستخدم تقنية “المداد الإلكتروني” المدهشة. ذلك يعني: تشبه ورقة الكتاب من حيث كونها لا تبعث الضوء كشاشة الكمبيوتر والآيفون والآيباد، ولكنها تعكسه، مثل ورق الكتاب.

ويمكن لذلك أن يصاحبنا القارئ الإلكتروني إلى الساحل تحت الشمس حيث يصعب قراءة كمبيوتر. ناهيك عن كونه خفيف الوزن مثل كتاب الجيب لا غير…

ثمّ بطاريته، بسبب شاشته التي تكتفي بعكس الضوء وليس بصنعه وبعثه، اقتصاديةٌ جدّاً، يمكنها أن تظلّ مشحونةً لأسابيع قبل إعادة تعبئتها.

 

شاشة القارئ الإلكتروني الوردية، بتقنية مدادها الإلكتروني، مريحةٌ جدّاً للعين، جذّابةٌ جدّاً، قابلةٌ لتغيير مستوى إضاءتها العاكسة، ناهيك عن أن حجم بنط الحرف فيها يمكنه أن يكبر أو يصغر ليتكيّف مع كل عين، وهذا ما يستحيل عمله مع الكتاب الورقي بالطبع!

ومن الخصائص شديدة الإغراء فيه هو أنك لا تحتاج معه إلى قاموس أو موسوعة للبحث عن معنى مفردة، أو تعريف مصطلح. يكفي أن تمس الكلمة بطرف أصبعك لتنفتح لك نوافذ جانبية تقدِّم لك معناها في القاموس، وما تقول عنها الموسوعة.

 

غير أن ذروة السحر هو أنك ترتبط بفضل القارئ الإلكتروني بملايين الكتب، ويمكنك أن تشحن فيه ما تريد من حيث كنت، ومجاناً إن كان الكتاب قد تجاوز بسبب أقدميته الزمنيّة (عدّة عقود) حقوق المؤلف.

في هذا الجهاز الصغير الذي يقل وزنه عن ربع كيلوجرام، يمكنك شحن معظم كتب الدنيا والتسكّع معها في البيت والحمام والحدائق العامة والطائرات والمطاعم وسرير النوم!

 

غيّر الكتاب الإلكتروني حياتي لأكثر من سبب. أهمّها: حال وصولي إلى فرنسا للدراسة الجامعية في المجال العلمي، ثم للعمل كمهندسٍ أولاً قبل أن أمسي بروفيسوراً جامعيّاً منذ 1992، وجدتُ أن عليّ أن أكون انتقائياً في قراءاتي الأدبية؛ لاسيّما أن بعض وقتي اليومي مكرّسٌ للكتابة الأدبية، ومساحة اليوم 24 ساعة فقط.

اكتفيتُ لذلك بالمتابعة الجادة للأدب المعاصر. وصارت لي قائمة واسعة من كُتّاب عصري الذين أقرأهم بانتظام، وأشتري كتب بعضهم يوم صدورها.

 

هكذا تأجّل من عامٍ لعام موعد قراءة الكتب الكلاسيكية التي لم أقرأ ترجماتها بالعربية في صباي العدَني.

ومع مرور الوقت، بدأتُ أظنُّ أنه تلزمني حياة جديدة لقراءة ما لم أقرأه لِمارسيل بروست، شاتوبريان، جيمس جويس، ستاندال، وعدد من الكتاب الروس والإنجليز الذين لم أقرأ من أعمالهم إلا قليلا… تحوّلَ التأخر في قراءتهم إلى عقدةٍ تخنق عصبونات دماغي، ناهيك عن هوَسِ قراءة ما لم أقرأه من أمهات الكتب بالعربية.

 

بعد ارتباطي بالقارئ الإلكتروني تساءلتُ: بماذا أبدأ؟… اخترتُ كتاباً كلاسيكيّا مجانياً صغيراً قرأته خلال عدة ساعات قبيل النوم. تكرّرت التجربة اليوم الثاني مع “البحث عن الزمن الضائع” لمارسيل بروست الذي أخذ عدّة أيّام ولذةً فاقت لذّة قراءته ورقيّاً، لاسيّما وأن البحث عن معنى هذه المفردة الغامضة أو عن بعض التفاصيل الموسوعية لأخرى، تظهر في نافذةٍ مؤقتة فوق المفردة، حال لمسها… تواصلت التجربة أكثر فأكثر، وانفتحت لي أبواب وعوالم جديدة.

 

ثمّ عاد لي هوَس القراءة بالعربية على الكِندل! سأكرِّسُ المقالَ القادم للحديث عن علاقتها به، والأسباب العميقة لعدم اندماجها في عالمه.